ما أحوج المسلمين إلى أمر جامع!
الشيخ/ محمد أبو زهرة - رحمه الله
تفرقت كلمة المسلمين؛ فلا جامعة تجمعهم، ولا أمر جامع يشدهم إلى ما دعاهم إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: "إنما المؤمنون إخوة، فأصلحوا بين أخويكم"، وقوله تعالى: "وإن هذه أمتكم أمة واحدة"، وما يوجبه الدين الحنيف من عدم التفرق والانقسام، وعدم التنابز والخصام؛ فقد قال تعالى مخاطبًا نبيه الكريم: "فأقم وجهك للدين حنيفًا، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، منيبين إليه واتقوه، وأقيموا الصلاة، ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرّقوا دينهم، وكانوا شيعًا، كل حزب بما لديهم فرحون".
وإن المتأمل في هذا النص الكريم يجد فيه أسباب الاجتماع وذرائع الافتراق، بين جماعات الناس، وخصوصًا أهل الإسلام، وإنه ليجد أسباب العزة، وأسباب الذلة، ويجد أسباب القوة وأسباب الضعف. فأسباب القوة والعزة والاجتماع، كما تدل الآية الكريمة، ثلاثة: أولها: الاتجاه إلى الله تعالى بإقامة دينه والإخلاص في طلب الحق؛ وثانيها: تقوى الله تعالى وخشيته وحده، وطلب ما عنده؛ وثالثها: ألا يسلكوا مسلك المشركين في أي عمل من الأعمال، فلا يعبدوا غير الله، ولا يخافوا غيره ولا يحسبوا لغيره حسابًا، ويتجهوا لطلب الحق لذاته، لا يغرهم مال يبتغونه، ولا جاه من غير طريق الحق يطلبونه، فذلك قوام الأمة، ومناط عزتها. ولقد سأل عمر بن الخطاب معاذ بن جبل، فقال: ما قوام هذه الأمة، فقال معاذ: ثلاث وهن المنجيات: الإخلاص وهو الفطرة ؛ فطرة الله التي فطر الناس عليها، والصلاة وهي الملة، والطاعة وهي العصمة.
ولا شك أن الطاعة هي التنفيذ للأمر الجامع الذي يجتمع عليه المسلمون، أو فيه تحقيق لحقيقة مقررة ثابتة يجتمع عليها المسلمون ويقررها الدين. ولقد قال سبحانه وتعالى في ذلك: "إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله، وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه، إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله، فإذا استأذنونك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله، إن الله غفور رحيم". وهذه صورة لطاعة الإمام العادل الذي ينفذ أمر الله تعالى.
هذه هي الأمور الثلاثة التي تكوِّن قوة الأمة. أما الأمور التي تفك قوتها وتسلمها إلى الذل والهوان؛ فهي: التفرق فيما بينهم بعصبية جامحة، أو بإقليمية ظالمة، فيكونون قوى متنافرة، بأسهم بينهم شديد، والسيف يخطر فيهم، فيعين قوم منهم على قوم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعل الشيطان أن ينزع في يده، فيقع في حفرة من حفر النار".
التفرق في الدين
وثاني الأمور الموهنة لقوة الأمة: التفرق في الدين، فيكون لكل طائفة منزع تنزع إليه، ليس من لب الدين، ولكن يتفرقون فيه ويشدون أنفسهم إليه شدًّا من غير مراعاة للفكرة الجامعة بينهم، ولا لرحم الحق القائمة في هذا الدين. والأمر الثالث الذاهب بكل عزة وبكل قوة: أن يسري في نفوسهم الوهن؛ وهو حب الدنيا بما فيها من جاه ومال، وقد فسر النبي –صلى الله عليه وسلم- الوهن الذي يذهب بالعزة، ويؤدي إلى الضعف وأن تصير أمة الإسلام أوزاعًا متفرقة، فقال: "إنه حب الدنيا وكراهية الموت"، ولا يكون حب الدنيا وكراهية الموت إلا إذا شغرت بالقلوب من التقوى، وامتلأت بمنازع الأهواء والشهوات، وترددت في التناحر والتنازع، وتخاذلت القوى ، ويصير المؤمن يرى أخاه المؤمن فريسة لعدوهما فلا يمد إليه يد المعونة، وقد تصل به الحال إلى أن يغري أعداء الإسلام به، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله، التقوى ها هنا، وأشار إلى صدره وما توادَّ رجلان في الله ففرق بينهما إلا حدث يحدثه أحدهما. والمحْدِث شر، والمحدث شر، والمحدث شر".
ذهبت المنجيات أو ضعفت، أو اختفى صوتها، وظهرت المهلكات ونتأت رءوسها، كما تنتأ رءوس الشياطين، وقد تنبأ النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك الأمر العظيم، فقد قال عليه السلام: "ويل للعرب من شر قد اقترب" فسأل راوي الحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون" فأجابه النبي- صلى الله عليه وسلم-: "نعم إذا كثر الخبث" نعم إذا كثرت الأعمال الخبيثة، وسيطر الخبيثون، وظهر الجو معتكرًا بالفساد وضعف صوت الحق فلم ينطق، ولجلج الباطل فلم يسكت، وأصبح الناس لا يسمعون إلا لغطًا، ولا يصل إلى آذانهم إلا باطل، واستمرأت الألسنة النطق بما يؤدي إلى الفرقة والانقسام، فإن الانفصال بين الدول الإسلامية يكون هو الأصل، والتقارب غيره، وكأن الأمة الإسلامية ليست إلا أشتاتًا من الناس، لا تجمعهم جامعة، ولا يربطهم ميثاق.
لقد أصبحنا لا نرى إلا دويلات متقاطعة متدابرة لا تجمعها جامعة ولا تربطهم رابطة دينية، اللهمّ إلا الصلوات في أوقاتها، والاتجاه إلى الكعبة وصوم رمضان، ويحجون البيت الحرام من غير تفهم لمعنى العبادات وغاياتها.
إن المسلمين لا ينظرون إلى الدين إلا على أنه علاقة نفسية تكون في الصلاة والصوم والحج في أضيق صورة حتى صاروا يظنون أن الإسلام دين المعابد والصوامع، حتى لقد صار المسلم ينظر إلى المسلم الذي يفارقه في المنزع الفكري نظرة الخصم المتربص، لا المخالف في النظر. يفرقهما الطريق، ولكن يجمعهما المقصد والغاية.
الأمر الخطير الآن- بعد أن خلعت كل دولة اسمها من أن تكون محكومة بالإسلام، بل صارت محكومة بأحكام الزمان- هو أن الدولة الإسلامية تنظر إلى غيرها من الدول الإسلامية على أنها مغايرة لها في كل شيء، لا تربطها بها رابطة؛ لا رابطة حضارة إسلامية كانت تجمعهم، ولا تراث فكري كان يربطهم، ولا القرآن وما اشتمل عليه من شرائع وأخلاق ونظم، ولا السُّنّة وما فيها من حكمة بالغة ولا صاحبها الذي أوتي الحكمة وفصل الخطاب، بل إنك تغشى دور الثقافة في كل إقليم إسلامي، فترى فيها تقديس عظماء الغرب قديمهم وحديثهم، وقد جعلوا كل ما هو إسلامي في جانب من جوانب الفكر غير متصل بالحياة والأحياء، ومعاهد العلم التي يغشاها أكثر شبيبة المسلمين لا يوجد فيها علم الإسلام ولا يوجد علم تراثه إلا عند طائفة يعلقون عليه، ولا يزيدون عمن يعلقون على الآثار القديمة إلا من حيث العدد، ومن حيث أن هؤلاء يعتقدون أنه دين وأنهم البقية الباقية التي تحفظ علم الإسلام وتصل ماضيه بحاضره، ولولا هذه البقية في احتفاظها بعلم الإسلام، لصار نسيًا منسيًّا، ولصار علمًا مهجورًا، ولقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الصحيحان البخاري ومسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة. وفي رواية: "حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك" وأنه قد وجد من بين هؤلاء من أخذ يؤول القرآن بغير تأويله، ويذهب بغير مذاهبه، وينسب ذلك إلى الإسلام وإلى علم القرآن، ولكنه لم يجد آذانًا مصغية، فبقيت الطائفة القائمة على شرع الله من العلماء الذين انصرفوا إلى علم الإسلام وبيان حقائقه، وستبقى إلى يوم القيامة إن شاء الله تعالى.
ثغرات استعمارية
إن تفرق الدول الإسلامية بعد أن خلعت الدين من نظمها، فلم يكن ذا سلطان في توجيه أمورها، قد أوجد الثغرات لغير الدول الإسلامية من النفوذ إلى السيطرة عليها إن لم يكن بقوة السلطان والتوجيه النظامي، حتى إننا نجد دولاً تعلن نفسها دولة إسلامية، والثقافة فيها إنجليزية أو أمريكية أو فرنسية أو غير ذلك من أنواع الثقافات.
بل إنها تجاوزت الثقافة إلى الاقتصاد، فتلك دولة إسلامية تستمد اقتصادها من إنجلترا وهذه من أمريكا، وتلك من غيرها من غير تعاون بين متكافئين، بل فيه أخذ المُستعين من المعين، والطالب من المطلوب، بل تجاوز ذلك إلى الاستعانة بأدوات القتال، فصارت الدول الإسلامية لا تأخذ بقوله تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله وعدوكم، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون".
وبدل أن تعد كل دولة سلاحها من داخلها، أخذ الكثير منها يستعين بالسلاح من غيرهم، وبعبارة القرآن الصادقة السامية من عدو الله تعالى وعدوهم، ومن آخرين من دونهم لا نعلمهم والله تعالى يعلمهم، والله تعالى يقول: "يأيها الذين آمنوا، لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً، وَدُّوا ما عنتم، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، قد بينا لكم الآيات، إن كنتم تعلمون. هأتنم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم، وتؤمنون بالكتاب كله. وإذا لقوكم قالوا آمنا، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ، قل موتوا بغيظكم، إن الله عليم بذات الصدور، إن تمسسكم حسنة تسؤهم، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها، وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا، إن الله بما يعملون محيط".
وصرنا نرى سيوفًا إسلامية تستعد لضرب المسلمين، فوق نشر الآراء الهادمة لمعاني الإسلام، ولكن هل نيئس ونترك الأمر للمقادير؟ إن ذلك ضد الإسلام، وضد مبادئه؛ فلا بد من عمل، ولا بد من مقاومة تلك الأدواء. وإن شعوب الإسلام ما زال فيها الإيمان القوي، وإنْ كانت أكثر الحكومات لا تحمي الإسلام في سياستها، ولا تتبعه في أعمالها، ولا في علاقاتها. وإن الشعوب تريد منارًا ينير السبيل، لا من داخل الأقاليم، ولكن من جماعات تعمل على جمع الوحدة؛ فلا بد من أمر جامع تلتقي عنده الشعوب الإسلامية، وترجع إليه، ويسير بها في طريق اللقاء من غير تدخل في سلطان الحكام، ولكن لمنع أن يكون الحكام بعضهم لبعض عدوًّا: "إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون".
____________
"هؤلاء رحلوا عنا "رحمهم الله" ولكن بقي علمهم بيننا ومضات على الطريق"
* هذا المقال نشر في سنة 1962م ، عن إسلام أون لاين نت
الشيخ/ محمد أبو زهرة - رحمه الله
تفرقت كلمة المسلمين؛ فلا جامعة تجمعهم، ولا أمر جامع يشدهم إلى ما دعاهم إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: "إنما المؤمنون إخوة، فأصلحوا بين أخويكم"، وقوله تعالى: "وإن هذه أمتكم أمة واحدة"، وما يوجبه الدين الحنيف من عدم التفرق والانقسام، وعدم التنابز والخصام؛ فقد قال تعالى مخاطبًا نبيه الكريم: "فأقم وجهك للدين حنيفًا، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، منيبين إليه واتقوه، وأقيموا الصلاة، ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرّقوا دينهم، وكانوا شيعًا، كل حزب بما لديهم فرحون".
وإن المتأمل في هذا النص الكريم يجد فيه أسباب الاجتماع وذرائع الافتراق، بين جماعات الناس، وخصوصًا أهل الإسلام، وإنه ليجد أسباب العزة، وأسباب الذلة، ويجد أسباب القوة وأسباب الضعف. فأسباب القوة والعزة والاجتماع، كما تدل الآية الكريمة، ثلاثة: أولها: الاتجاه إلى الله تعالى بإقامة دينه والإخلاص في طلب الحق؛ وثانيها: تقوى الله تعالى وخشيته وحده، وطلب ما عنده؛ وثالثها: ألا يسلكوا مسلك المشركين في أي عمل من الأعمال، فلا يعبدوا غير الله، ولا يخافوا غيره ولا يحسبوا لغيره حسابًا، ويتجهوا لطلب الحق لذاته، لا يغرهم مال يبتغونه، ولا جاه من غير طريق الحق يطلبونه، فذلك قوام الأمة، ومناط عزتها. ولقد سأل عمر بن الخطاب معاذ بن جبل، فقال: ما قوام هذه الأمة، فقال معاذ: ثلاث وهن المنجيات: الإخلاص وهو الفطرة ؛ فطرة الله التي فطر الناس عليها، والصلاة وهي الملة، والطاعة وهي العصمة.
ولا شك أن الطاعة هي التنفيذ للأمر الجامع الذي يجتمع عليه المسلمون، أو فيه تحقيق لحقيقة مقررة ثابتة يجتمع عليها المسلمون ويقررها الدين. ولقد قال سبحانه وتعالى في ذلك: "إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله، وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه، إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله، فإذا استأذنونك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله، إن الله غفور رحيم". وهذه صورة لطاعة الإمام العادل الذي ينفذ أمر الله تعالى.
هذه هي الأمور الثلاثة التي تكوِّن قوة الأمة. أما الأمور التي تفك قوتها وتسلمها إلى الذل والهوان؛ فهي: التفرق فيما بينهم بعصبية جامحة، أو بإقليمية ظالمة، فيكونون قوى متنافرة، بأسهم بينهم شديد، والسيف يخطر فيهم، فيعين قوم منهم على قوم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعل الشيطان أن ينزع في يده، فيقع في حفرة من حفر النار".
التفرق في الدين
وثاني الأمور الموهنة لقوة الأمة: التفرق في الدين، فيكون لكل طائفة منزع تنزع إليه، ليس من لب الدين، ولكن يتفرقون فيه ويشدون أنفسهم إليه شدًّا من غير مراعاة للفكرة الجامعة بينهم، ولا لرحم الحق القائمة في هذا الدين. والأمر الثالث الذاهب بكل عزة وبكل قوة: أن يسري في نفوسهم الوهن؛ وهو حب الدنيا بما فيها من جاه ومال، وقد فسر النبي –صلى الله عليه وسلم- الوهن الذي يذهب بالعزة، ويؤدي إلى الضعف وأن تصير أمة الإسلام أوزاعًا متفرقة، فقال: "إنه حب الدنيا وكراهية الموت"، ولا يكون حب الدنيا وكراهية الموت إلا إذا شغرت بالقلوب من التقوى، وامتلأت بمنازع الأهواء والشهوات، وترددت في التناحر والتنازع، وتخاذلت القوى ، ويصير المؤمن يرى أخاه المؤمن فريسة لعدوهما فلا يمد إليه يد المعونة، وقد تصل به الحال إلى أن يغري أعداء الإسلام به، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله، التقوى ها هنا، وأشار إلى صدره وما توادَّ رجلان في الله ففرق بينهما إلا حدث يحدثه أحدهما. والمحْدِث شر، والمحدث شر، والمحدث شر".
ذهبت المنجيات أو ضعفت، أو اختفى صوتها، وظهرت المهلكات ونتأت رءوسها، كما تنتأ رءوس الشياطين، وقد تنبأ النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك الأمر العظيم، فقد قال عليه السلام: "ويل للعرب من شر قد اقترب" فسأل راوي الحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون" فأجابه النبي- صلى الله عليه وسلم-: "نعم إذا كثر الخبث" نعم إذا كثرت الأعمال الخبيثة، وسيطر الخبيثون، وظهر الجو معتكرًا بالفساد وضعف صوت الحق فلم ينطق، ولجلج الباطل فلم يسكت، وأصبح الناس لا يسمعون إلا لغطًا، ولا يصل إلى آذانهم إلا باطل، واستمرأت الألسنة النطق بما يؤدي إلى الفرقة والانقسام، فإن الانفصال بين الدول الإسلامية يكون هو الأصل، والتقارب غيره، وكأن الأمة الإسلامية ليست إلا أشتاتًا من الناس، لا تجمعهم جامعة، ولا يربطهم ميثاق.
لقد أصبحنا لا نرى إلا دويلات متقاطعة متدابرة لا تجمعها جامعة ولا تربطهم رابطة دينية، اللهمّ إلا الصلوات في أوقاتها، والاتجاه إلى الكعبة وصوم رمضان، ويحجون البيت الحرام من غير تفهم لمعنى العبادات وغاياتها.
إن المسلمين لا ينظرون إلى الدين إلا على أنه علاقة نفسية تكون في الصلاة والصوم والحج في أضيق صورة حتى صاروا يظنون أن الإسلام دين المعابد والصوامع، حتى لقد صار المسلم ينظر إلى المسلم الذي يفارقه في المنزع الفكري نظرة الخصم المتربص، لا المخالف في النظر. يفرقهما الطريق، ولكن يجمعهما المقصد والغاية.
الأمر الخطير الآن- بعد أن خلعت كل دولة اسمها من أن تكون محكومة بالإسلام، بل صارت محكومة بأحكام الزمان- هو أن الدولة الإسلامية تنظر إلى غيرها من الدول الإسلامية على أنها مغايرة لها في كل شيء، لا تربطها بها رابطة؛ لا رابطة حضارة إسلامية كانت تجمعهم، ولا تراث فكري كان يربطهم، ولا القرآن وما اشتمل عليه من شرائع وأخلاق ونظم، ولا السُّنّة وما فيها من حكمة بالغة ولا صاحبها الذي أوتي الحكمة وفصل الخطاب، بل إنك تغشى دور الثقافة في كل إقليم إسلامي، فترى فيها تقديس عظماء الغرب قديمهم وحديثهم، وقد جعلوا كل ما هو إسلامي في جانب من جوانب الفكر غير متصل بالحياة والأحياء، ومعاهد العلم التي يغشاها أكثر شبيبة المسلمين لا يوجد فيها علم الإسلام ولا يوجد علم تراثه إلا عند طائفة يعلقون عليه، ولا يزيدون عمن يعلقون على الآثار القديمة إلا من حيث العدد، ومن حيث أن هؤلاء يعتقدون أنه دين وأنهم البقية الباقية التي تحفظ علم الإسلام وتصل ماضيه بحاضره، ولولا هذه البقية في احتفاظها بعلم الإسلام، لصار نسيًا منسيًّا، ولصار علمًا مهجورًا، ولقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الصحيحان البخاري ومسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة. وفي رواية: "حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك" وأنه قد وجد من بين هؤلاء من أخذ يؤول القرآن بغير تأويله، ويذهب بغير مذاهبه، وينسب ذلك إلى الإسلام وإلى علم القرآن، ولكنه لم يجد آذانًا مصغية، فبقيت الطائفة القائمة على شرع الله من العلماء الذين انصرفوا إلى علم الإسلام وبيان حقائقه، وستبقى إلى يوم القيامة إن شاء الله تعالى.
ثغرات استعمارية
إن تفرق الدول الإسلامية بعد أن خلعت الدين من نظمها، فلم يكن ذا سلطان في توجيه أمورها، قد أوجد الثغرات لغير الدول الإسلامية من النفوذ إلى السيطرة عليها إن لم يكن بقوة السلطان والتوجيه النظامي، حتى إننا نجد دولاً تعلن نفسها دولة إسلامية، والثقافة فيها إنجليزية أو أمريكية أو فرنسية أو غير ذلك من أنواع الثقافات.
بل إنها تجاوزت الثقافة إلى الاقتصاد، فتلك دولة إسلامية تستمد اقتصادها من إنجلترا وهذه من أمريكا، وتلك من غيرها من غير تعاون بين متكافئين، بل فيه أخذ المُستعين من المعين، والطالب من المطلوب، بل تجاوز ذلك إلى الاستعانة بأدوات القتال، فصارت الدول الإسلامية لا تأخذ بقوله تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله وعدوكم، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون".
وبدل أن تعد كل دولة سلاحها من داخلها، أخذ الكثير منها يستعين بالسلاح من غيرهم، وبعبارة القرآن الصادقة السامية من عدو الله تعالى وعدوهم، ومن آخرين من دونهم لا نعلمهم والله تعالى يعلمهم، والله تعالى يقول: "يأيها الذين آمنوا، لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً، وَدُّوا ما عنتم، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، قد بينا لكم الآيات، إن كنتم تعلمون. هأتنم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم، وتؤمنون بالكتاب كله. وإذا لقوكم قالوا آمنا، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ، قل موتوا بغيظكم، إن الله عليم بذات الصدور، إن تمسسكم حسنة تسؤهم، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها، وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا، إن الله بما يعملون محيط".
وصرنا نرى سيوفًا إسلامية تستعد لضرب المسلمين، فوق نشر الآراء الهادمة لمعاني الإسلام، ولكن هل نيئس ونترك الأمر للمقادير؟ إن ذلك ضد الإسلام، وضد مبادئه؛ فلا بد من عمل، ولا بد من مقاومة تلك الأدواء. وإن شعوب الإسلام ما زال فيها الإيمان القوي، وإنْ كانت أكثر الحكومات لا تحمي الإسلام في سياستها، ولا تتبعه في أعمالها، ولا في علاقاتها. وإن الشعوب تريد منارًا ينير السبيل، لا من داخل الأقاليم، ولكن من جماعات تعمل على جمع الوحدة؛ فلا بد من أمر جامع تلتقي عنده الشعوب الإسلامية، وترجع إليه، ويسير بها في طريق اللقاء من غير تدخل في سلطان الحكام، ولكن لمنع أن يكون الحكام بعضهم لبعض عدوًّا: "إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون".
____________
"هؤلاء رحلوا عنا "رحمهم الله" ولكن بقي علمهم بيننا ومضات على الطريق"
* هذا المقال نشر في سنة 1962م ، عن إسلام أون لاين نت