المفسرون.. أخطاء وخطايا
من تراث الشيخ محمد الغزالي رحمه الله
دروس التفسير التي تلقيناها في الأزهر لستين سنة خلت، كانت تطبيقًا لقواعد اللغة والبلاغة، بينما لا يعيها ويبرع فيها إلا متمكن من النحو والصرف، والمعاني والبيان، والبديع.
خذ مثلا قوله تعالى: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ) (سورة يونس: 2).
الجهد المبذول كله حول هذه الأسئلة: ما اسم كان في الآية الكريمة؟ وما خبر أن؟ وما أنواع التوكيد في قول الكافرين؟ وما سر الفصل بين جملة قال الكافرون، والجملة التي سبقتها؟ وكيف تعرب أن أنذر الناس؟
ولا ريب أن معنى الآية يظهر مع هذه الأجوبة كلها، بل ما يستطيع إيضاحه إلا العارف بهذه الأسرار اللغوية، ولكن الحصيلة الأخيرة دروس في النحو والبلاغة!
كنا إذا مررنا بآية (يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) (سورة هود:44)، كان علينا اكتشاف المجاز، وأجزاء الاستعارة الموجودة، وبيان أي نوع من أنواع الاستعارة تكون؟ وهكذا، كنا نعيش مع التفسير البياني للقرآن الكريم.
فإذا جئنا إلى التفسير الفقهي أخذنا وجهة فنية أخرى: خذ مثلا قوله تعالى: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أو تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) (سورة البقرة: 229). إلخ.
إن التساؤل هنا عن مكان الطلقة الثالثة؟ وعن مكان الخلع في الآية؟ وهل الخلع طلاق أم فسخ لعقد الزواج الأصلي؟ وهل يجوز الفداء بأكثر من المهر؟ وهل الطلاق المقرون بالعدد يعتبر مرة واحدة كما يرى ابن تيمية؟ وهل العقد المجرد يبيح عودة المطلقة إلى زوجها الأول كما يرى ابن المسيب وابن جبير، أم أن النكاح حقيقة في العقد والوطء معًا؟ وهل تتولى المرأة عقدها، كما هو ظاهر اللفظ، أم لا بد من ولي؟
الوسائل لا تكون غايات
وهكذا يتحول التفسير إلى درس في الفقه المقارن، ويستخلص كل منا المعنى الذي يرجحه! ورحم الله من علمونا اللغة العربية والفقه الإسلامي، وهم يفسرون القرآن الكريم، لقد أفدنا منهم كثيرًا، وكل ما أريد بيانه أن علوم اللغة، والفقه، وسائل لتقرير المعنى المراد، وسائل لا بد منها، فما يحسن التفسير إلا من وعاها.
ولكن الوسائل لا تتحول إلى غايات، ومن الممكن بعد شرحها أن نفتح القلوب بالمعاني النائية للوحي الإلهي، وكيف يهدي الله الناس إلى الحق بما شرع من أحكام.
يستطيع المفسر أن يشرح سنن الله في الإيلاف والاختلاف، والحب والكره، وتقوى الله على الحالين، وأن يشرح آثار النزق في هدم البيوت، ومعنى اعتداء حدود الله، وضرورة التماسك أمام إلحاح المشاعر الثائرة.
إن الوسائل البلاغية والأحكام الفقهية جزء من السياق المحكم للتربية القرآنية المنشودة، ولا يجوز كما قلنا أن تتحول الوسائل إلى غايات. وهناك تفسير صوفي يعتمد على الأذواق الخاصة، وهذه الأذواق بعضها سائغ وبعضها غير ذلك، وأرى استبعاد هذا اللون عن الميدان العلمي. وقد تقبل منه إشارات أو نكت خلال التفسير العادية، وقد يتحول التصوف إلى فلسفة، فلا ترى والحالة هذه إلا ظلمات بعضها فوق بعض.
وللزمخشري تفسير يعد إمامًا في التفسير البياني للقرآن الكريم، ولولا آراؤه الاعتزالية المنحرفة لكانت له مكانة لا تدانى! وقد جاء النسفي فسطا على هذا التفسير، وصادره لحساب أهل السنة -أعني الأشاعرة- وكان تفسير النسفي مقررًا علينا في مراحل الدراسة الثانوية، فإذا أشكلت علينا عبارة رجعنا إلى الزمخشري لنستبينها!! غفر الله للجميع.
أما التفسير الكلامي فهو بلا شك تفسير ذكي متعمق، ونموذجه الأعلى في تفسير الفخر الرازي، وهو يتطرق إلى ألوان شتى من المعاني والأغراض، ويعطي قارئه صورة للفكر الإسلامي خلال قرون طوال.
وأنا ممن يضيقون بعلم الكلام، خصوصًا قضاياه الفلسفية المشتبكة بالفكر الإغريقي، بيد أنني أوثر الإنصاف ولا أطوّح بالخير كله لما يقع من هنات، وكتب المفسرين ملأى بمعارف جيدة يحتاج إليها طلاب العلم، على أن يكون معهم خبير ماهر يجذبهم المزالق والأوهام.
بقي التفسير الأثري، وهو تفسير أصاب حظًّا من رواج في الأيام الأخيرة، ذلك أن أحق من يفسر كلام الله هو نبيه، ثم علماء الصحابة.
وتفسير القرآن بالقرآن، أو بالسنن الثابتة نور على نور، وعلماء هذا المنهج الطبري وابن كثير، وقد أعجبني من الخازن أنه عندما يفسر آية يورد الأحاديث المناسبة منسوبة إلى كتبها، ولولا ولع الرجل بالأساطير والإسرائيليات لكان تفسيره ممتازًا... ونحن مضطرون إلى ذكر مآخذ على التفسير الأثري كان ينبغي أن يتنزه عنها.
قمامات فكرية
القرآن الكريم أصدق ما بقي على ظهر الأرض من مواريث السماء! إن اليقين يحف كلماته حرفًا حرفًا، وتم الوعد الإلهي بحفظه، فهو مذ نزل إلى اليوم مصون (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (سورة الحجر: 9).
وكان يجب على مفسري القرآن بالأثر أن يتجاوبوا مع هذه الحقيقة، وأن يجنبوا تفاسيرهم كل ما فيه ريبة، وأن يلتزموا بما وضعه الأولون من شروط الصحة والقبول، فإن هذه الشروط جديرة بالاحترام كلها.
إذا خالف الثقة من هو أوثق منه عددنا حديثه شاذًّا ورفضناه، فإذا كان المخالف ضعيفًا وروى ما لا يعرفه الثقات فحديثه منكر أو متروك!
فلماذا يكثر في التفسير الأثري الشاذ والمتروك المنكر؟ بل كيف تروى حكايات هي السخف بعينه، يطبق المسلمون على إنكارها واستبعادها، ومع ذلك تبقى مكتوبة يقرؤها ضعاف العقول فيضطربوا لها؟
انظر ما كتبه الخازن تفسيرًا لقوله تعالى: (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ...) (سورة النساء: 162) قال: اختلف العلماء في وجه نصبه فحكى عن عائشة وأبان عن عثمان أنه غلط من الكتاب، ينبغي أن يكتب "والمقيمون"! قال عثمان: إن في المصحف لحنًا ستقيمه العرب بألسنتهم (1)، فقيل له: أفلا تغيره؟ قال: دعوه، فإنه لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالاً!!!
وذهب عامة الصحابة وسائر العلماء ومن بعدهم إلى أنه لفظ صحيح ليس فيه خطأ من كاتب ولا غيره، وأجيب عما روي عن عائشة وعثمان، وأبان، بأن هذا بعيد جدًّا؛ لأن الذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة والفصاحة، فكيف يتركون في كتاب الله لحنا يصلحه غيرهم؟ لا ينبغي أن ينسب هذا إليهم!
وقال ابن الأنباري: ما روي عن عثمان لا يصلح؛ لأنه غير متصل(2) - طعن في السند-!! ومحال أن يؤخر عثمان شيئًا فاسدًا ليصلحه غيره؛ ولأن القرآن منقول بالتواتر، فكيف يمكن وجود اللحن فيه؟!
قد يقال: إن التفسير الخازن مشحون بالترهات والإسرائيليات! وإن الثقة به مهتزة.. ووقوع هذه الهنات فيه -وإن كان مستهجنًا- لا يجوز أن يكون مثار شكوى عامة!!
أقول: هذا صحيح، لكن تسلل ذلك السخف إلى تفسير محترم كالقرطبي يسوغ غضبي، إن الخرافة انتقلت من الشام إلى الأندلس بسهولة! وإن كان المفسر الكبير قد أثبتها، ثم عقب عليها بقول القشيري: هذا مسلك باطل؛ لأن الذين جمعوا الكتاب كانوا قدوة في اللغة فلا يظن بهم أنهم يدرجون في القرآن ما لم ينزل!!
وليت القرطبي ما ذكر ولا نكر، لعل ازدراءه للقضية كلها جعله يكتفي بهذا الرد الخافت، وإلا فهو يدري أن النقل المتواتر هو أساس ثبوت القرآن، وأن الكتابة أداة تسجيل وحسب، وأن الحفاظ عن ظهر قلب كانوا جيشًا كثيف العدد، وأن الحكايات المتلصصة حول هذه الحقيقة لا تساوي قلامة ظفر، ولو نقلت في بعض كتب النوادر!!
وهناك رواية لأحمد في مسنده نقلها ابن كثير في تفسيره -وهو مصدر من مصادر التفسير الأثري- جاء فيها عن زر: قال لي أبي بن كعب: كأين تقرأ سورة الأحزاب؟ أو كأي تعدها؟ قلت: ثلاثًا وسبعين آية! قال: قط، لقد رأيتها وأنها لتعادل سورة البقرة.. إلخ.
وهذا كلام سقيم، فإن الله لا ينزل وحيًا يملأ أربعين صفحة ثم ينخسه أو يحذف منه أربعًا وثلاثين ويستبقي ست صفحات وحسب! هذا هزل ما كان ليروى! والمسند قد ترى فيه الأحاديث الواهية والموضوعات المرفوضة.
وأنبه إلى أن ما يتصل بالقرآن لا يتحمل هذه الحكايات المنكرة، وفي المسند حديث عن الأحرف السبعة يثير الضحك، وقد رفضته الجماهير بداهة، ومع ذلك فإن النووي في شرحه لصحيح مسلم ذكر أن من الحروف السبعة أن تضع حكيمًا عليمًا مكان سميعًا بصيرًا، ما لم تضع آية رحمة مكان آية عذاب!!
وهذه حكاية في غاية الغثاثة وما كان يجوز أن تذكر أو تنقل لكذبها، على أن هذه الموضوعات كلها تلاشت أمام حشود التواتر التي أحاطت بالوحي الخاتم، وتجاوزها العلماء بازدراء، وما عرضنا لها إلا لنلفت النظر إلى متحدثين في الإسلام بضاعتهم النقل الذي لا وعي معه. وحبذا لو ألف الأزهر لجانا علمية لتنقية التفاسير من أمثال هذه القمامات الفكرية، فهي بإجماع المسلمين مرفوضة.
_______________
المصدر: مدارك / إسلام أون لاين نت
من تراث الشيخ محمد الغزالي رحمه الله
دروس التفسير التي تلقيناها في الأزهر لستين سنة خلت، كانت تطبيقًا لقواعد اللغة والبلاغة، بينما لا يعيها ويبرع فيها إلا متمكن من النحو والصرف، والمعاني والبيان، والبديع.
خذ مثلا قوله تعالى: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ) (سورة يونس: 2).
الجهد المبذول كله حول هذه الأسئلة: ما اسم كان في الآية الكريمة؟ وما خبر أن؟ وما أنواع التوكيد في قول الكافرين؟ وما سر الفصل بين جملة قال الكافرون، والجملة التي سبقتها؟ وكيف تعرب أن أنذر الناس؟
ولا ريب أن معنى الآية يظهر مع هذه الأجوبة كلها، بل ما يستطيع إيضاحه إلا العارف بهذه الأسرار اللغوية، ولكن الحصيلة الأخيرة دروس في النحو والبلاغة!
كنا إذا مررنا بآية (يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) (سورة هود:44)، كان علينا اكتشاف المجاز، وأجزاء الاستعارة الموجودة، وبيان أي نوع من أنواع الاستعارة تكون؟ وهكذا، كنا نعيش مع التفسير البياني للقرآن الكريم.
فإذا جئنا إلى التفسير الفقهي أخذنا وجهة فنية أخرى: خذ مثلا قوله تعالى: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أو تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) (سورة البقرة: 229). إلخ.
إن التساؤل هنا عن مكان الطلقة الثالثة؟ وعن مكان الخلع في الآية؟ وهل الخلع طلاق أم فسخ لعقد الزواج الأصلي؟ وهل يجوز الفداء بأكثر من المهر؟ وهل الطلاق المقرون بالعدد يعتبر مرة واحدة كما يرى ابن تيمية؟ وهل العقد المجرد يبيح عودة المطلقة إلى زوجها الأول كما يرى ابن المسيب وابن جبير، أم أن النكاح حقيقة في العقد والوطء معًا؟ وهل تتولى المرأة عقدها، كما هو ظاهر اللفظ، أم لا بد من ولي؟
الوسائل لا تكون غايات
وهكذا يتحول التفسير إلى درس في الفقه المقارن، ويستخلص كل منا المعنى الذي يرجحه! ورحم الله من علمونا اللغة العربية والفقه الإسلامي، وهم يفسرون القرآن الكريم، لقد أفدنا منهم كثيرًا، وكل ما أريد بيانه أن علوم اللغة، والفقه، وسائل لتقرير المعنى المراد، وسائل لا بد منها، فما يحسن التفسير إلا من وعاها.
ولكن الوسائل لا تتحول إلى غايات، ومن الممكن بعد شرحها أن نفتح القلوب بالمعاني النائية للوحي الإلهي، وكيف يهدي الله الناس إلى الحق بما شرع من أحكام.
يستطيع المفسر أن يشرح سنن الله في الإيلاف والاختلاف، والحب والكره، وتقوى الله على الحالين، وأن يشرح آثار النزق في هدم البيوت، ومعنى اعتداء حدود الله، وضرورة التماسك أمام إلحاح المشاعر الثائرة.
إن الوسائل البلاغية والأحكام الفقهية جزء من السياق المحكم للتربية القرآنية المنشودة، ولا يجوز كما قلنا أن تتحول الوسائل إلى غايات. وهناك تفسير صوفي يعتمد على الأذواق الخاصة، وهذه الأذواق بعضها سائغ وبعضها غير ذلك، وأرى استبعاد هذا اللون عن الميدان العلمي. وقد تقبل منه إشارات أو نكت خلال التفسير العادية، وقد يتحول التصوف إلى فلسفة، فلا ترى والحالة هذه إلا ظلمات بعضها فوق بعض.
وللزمخشري تفسير يعد إمامًا في التفسير البياني للقرآن الكريم، ولولا آراؤه الاعتزالية المنحرفة لكانت له مكانة لا تدانى! وقد جاء النسفي فسطا على هذا التفسير، وصادره لحساب أهل السنة -أعني الأشاعرة- وكان تفسير النسفي مقررًا علينا في مراحل الدراسة الثانوية، فإذا أشكلت علينا عبارة رجعنا إلى الزمخشري لنستبينها!! غفر الله للجميع.
أما التفسير الكلامي فهو بلا شك تفسير ذكي متعمق، ونموذجه الأعلى في تفسير الفخر الرازي، وهو يتطرق إلى ألوان شتى من المعاني والأغراض، ويعطي قارئه صورة للفكر الإسلامي خلال قرون طوال.
وأنا ممن يضيقون بعلم الكلام، خصوصًا قضاياه الفلسفية المشتبكة بالفكر الإغريقي، بيد أنني أوثر الإنصاف ولا أطوّح بالخير كله لما يقع من هنات، وكتب المفسرين ملأى بمعارف جيدة يحتاج إليها طلاب العلم، على أن يكون معهم خبير ماهر يجذبهم المزالق والأوهام.
بقي التفسير الأثري، وهو تفسير أصاب حظًّا من رواج في الأيام الأخيرة، ذلك أن أحق من يفسر كلام الله هو نبيه، ثم علماء الصحابة.
وتفسير القرآن بالقرآن، أو بالسنن الثابتة نور على نور، وعلماء هذا المنهج الطبري وابن كثير، وقد أعجبني من الخازن أنه عندما يفسر آية يورد الأحاديث المناسبة منسوبة إلى كتبها، ولولا ولع الرجل بالأساطير والإسرائيليات لكان تفسيره ممتازًا... ونحن مضطرون إلى ذكر مآخذ على التفسير الأثري كان ينبغي أن يتنزه عنها.
قمامات فكرية
القرآن الكريم أصدق ما بقي على ظهر الأرض من مواريث السماء! إن اليقين يحف كلماته حرفًا حرفًا، وتم الوعد الإلهي بحفظه، فهو مذ نزل إلى اليوم مصون (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (سورة الحجر: 9).
وكان يجب على مفسري القرآن بالأثر أن يتجاوبوا مع هذه الحقيقة، وأن يجنبوا تفاسيرهم كل ما فيه ريبة، وأن يلتزموا بما وضعه الأولون من شروط الصحة والقبول، فإن هذه الشروط جديرة بالاحترام كلها.
إذا خالف الثقة من هو أوثق منه عددنا حديثه شاذًّا ورفضناه، فإذا كان المخالف ضعيفًا وروى ما لا يعرفه الثقات فحديثه منكر أو متروك!
فلماذا يكثر في التفسير الأثري الشاذ والمتروك المنكر؟ بل كيف تروى حكايات هي السخف بعينه، يطبق المسلمون على إنكارها واستبعادها، ومع ذلك تبقى مكتوبة يقرؤها ضعاف العقول فيضطربوا لها؟
انظر ما كتبه الخازن تفسيرًا لقوله تعالى: (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ...) (سورة النساء: 162) قال: اختلف العلماء في وجه نصبه فحكى عن عائشة وأبان عن عثمان أنه غلط من الكتاب، ينبغي أن يكتب "والمقيمون"! قال عثمان: إن في المصحف لحنًا ستقيمه العرب بألسنتهم (1)، فقيل له: أفلا تغيره؟ قال: دعوه، فإنه لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالاً!!!
وذهب عامة الصحابة وسائر العلماء ومن بعدهم إلى أنه لفظ صحيح ليس فيه خطأ من كاتب ولا غيره، وأجيب عما روي عن عائشة وعثمان، وأبان، بأن هذا بعيد جدًّا؛ لأن الذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة والفصاحة، فكيف يتركون في كتاب الله لحنا يصلحه غيرهم؟ لا ينبغي أن ينسب هذا إليهم!
وقال ابن الأنباري: ما روي عن عثمان لا يصلح؛ لأنه غير متصل(2) - طعن في السند-!! ومحال أن يؤخر عثمان شيئًا فاسدًا ليصلحه غيره؛ ولأن القرآن منقول بالتواتر، فكيف يمكن وجود اللحن فيه؟!
قد يقال: إن التفسير الخازن مشحون بالترهات والإسرائيليات! وإن الثقة به مهتزة.. ووقوع هذه الهنات فيه -وإن كان مستهجنًا- لا يجوز أن يكون مثار شكوى عامة!!
أقول: هذا صحيح، لكن تسلل ذلك السخف إلى تفسير محترم كالقرطبي يسوغ غضبي، إن الخرافة انتقلت من الشام إلى الأندلس بسهولة! وإن كان المفسر الكبير قد أثبتها، ثم عقب عليها بقول القشيري: هذا مسلك باطل؛ لأن الذين جمعوا الكتاب كانوا قدوة في اللغة فلا يظن بهم أنهم يدرجون في القرآن ما لم ينزل!!
وليت القرطبي ما ذكر ولا نكر، لعل ازدراءه للقضية كلها جعله يكتفي بهذا الرد الخافت، وإلا فهو يدري أن النقل المتواتر هو أساس ثبوت القرآن، وأن الكتابة أداة تسجيل وحسب، وأن الحفاظ عن ظهر قلب كانوا جيشًا كثيف العدد، وأن الحكايات المتلصصة حول هذه الحقيقة لا تساوي قلامة ظفر، ولو نقلت في بعض كتب النوادر!!
وهناك رواية لأحمد في مسنده نقلها ابن كثير في تفسيره -وهو مصدر من مصادر التفسير الأثري- جاء فيها عن زر: قال لي أبي بن كعب: كأين تقرأ سورة الأحزاب؟ أو كأي تعدها؟ قلت: ثلاثًا وسبعين آية! قال: قط، لقد رأيتها وأنها لتعادل سورة البقرة.. إلخ.
وهذا كلام سقيم، فإن الله لا ينزل وحيًا يملأ أربعين صفحة ثم ينخسه أو يحذف منه أربعًا وثلاثين ويستبقي ست صفحات وحسب! هذا هزل ما كان ليروى! والمسند قد ترى فيه الأحاديث الواهية والموضوعات المرفوضة.
وأنبه إلى أن ما يتصل بالقرآن لا يتحمل هذه الحكايات المنكرة، وفي المسند حديث عن الأحرف السبعة يثير الضحك، وقد رفضته الجماهير بداهة، ومع ذلك فإن النووي في شرحه لصحيح مسلم ذكر أن من الحروف السبعة أن تضع حكيمًا عليمًا مكان سميعًا بصيرًا، ما لم تضع آية رحمة مكان آية عذاب!!
وهذه حكاية في غاية الغثاثة وما كان يجوز أن تذكر أو تنقل لكذبها، على أن هذه الموضوعات كلها تلاشت أمام حشود التواتر التي أحاطت بالوحي الخاتم، وتجاوزها العلماء بازدراء، وما عرضنا لها إلا لنلفت النظر إلى متحدثين في الإسلام بضاعتهم النقل الذي لا وعي معه. وحبذا لو ألف الأزهر لجانا علمية لتنقية التفاسير من أمثال هذه القمامات الفكرية، فهي بإجماع المسلمين مرفوضة.
_______________
المصدر: مدارك / إسلام أون لاين نت