سمات الحوار القصصي
بقلم حسن غريب أحمد
يتصل المدخل المناسب إلى دراسة أسلوب الحوار في بناء القصة القصيرة بالمحادثة التى تجرى في الحياة بين الناس، و يبدو من المهم أن تتلمس ملامح حركة الحوار في آداء دوره الوظيفي العام في تحقيق فعل فنى بنائى، في ضوء علاقة تقابلية مع حالات المحادثات التى تقع في الحياة. إذ أن التعبير الذى يمارسه الناس كنشاط نطقى في العلاقات فيما بينهم ، هو تخاطب أو تحاور، وهذا يعنى أن التعبير ليس أحادى المنبت - - التعبير ثنائى المنبت بمعنى أنه من ( أ ) إلى ( ب ) وفي الوقت نفسه من ( ب) إلى ( أ ) ، وكل متكلم هو أيضاً في الوقت نفسه مخاطب ، فالكلام مخاطب و توجه، إصغاء لنطق ونطق. إنه علاقة.
و تحتاج هذه العلاقة إلى رصد دقيق من أجل تفسير ظواهرها المرتبطة بالتصرف السلوكى، و الانفعالات الوجدانية الخاصة بالإنسان.. ففي أحاديث الناس تتجلى سماتهم، و طبائعهم ، وأفكارهم و يكتشفون أحياناً عن جزء من نواياهم. والناس حين يتحدثون فيما بينهم لا يضعون مخططا محدداً يضبط كلماتهم ، وعباراتهم و مواضيعهم فقد يدخلون موضوعهم الرئيسى في طيات موضوعات عدة يفتحون صفحاتهم و هم يرومون أمراً آخر، ومن هنا ينشأ وعى خاص لدى الكاتب في اختيار أسلوب الحوار الأدبى الذى يجريه على ألسنة شخصياته. إذ يتطلب من المبدع توجيه الحوار باتجاه التكثيف و الاكتناز بغية نقل الحوار من مستوى المحادثة اليومية العادية التى تحدث بين الناس، إلى مستوى جديد يتوافر على انتقائية المفردة ، والتركيب ، والموضوع والإيحاء انسجاماً مع روح الإيحائية التى تنبع من أى عمل فنى ، مهما كان واقعياً أو أميناً في تصوير مفردات الواقع، وينبه (تشارلس مورجان) إلى هذه النقطة فيشير إلى ((إن الحوار تقطير لا تقرير)) وأنه ( وسيلة شكلية للنفاذ إلى جوهر الأشياء) غير أن ذلك لا يعفي الكاتب من خطأ قد يقع فيه وهو تجاهل المحادثة الحياتية اليومية بين الناس، ذلك أنها المادة الأساس التى تمكن الفنان من اختيار لمحاتها المضيئة في وسط العمل الفنى، فالمحادثة في الحياة العادية مرتبطة بالحوار القائم بين الشخصيات المبتكرة في العمل القصصى، و لكنه ارتباط تفاعل، لا ارتباط ارتماء أو اتكاء، فذلك يقود إلى الترهل والملل ، والقصة القصيرة هى الجنس الأدبى الأكثر حساسية إزاء هذه المسألة.
و ثمة حقيقة عامة يتأسس عليها تحليل الحوار بأنواعه و أنماطه الوظيفية في القصة القصيرة، و هى أن الحوار جزء فنى من كيان أدبى تتوافر فيه العناصر الأدبية المتكاملة التى تجعل من ذلك الكيان اللفظى أدباً و ليس شيئاً آخر. فالحوار في ضوء هذه الحقيقة تأسيس فنى فيه يحتوى خاصيتا الانفصال والاتحاد معاً، في علاقته مع المحادثات الحياتية اليومية، فعلاقة ( الاتحاد) هى علاقة اشتقاق و تناغم و استمداد من معين حياتى يعطى صورة عن حالة فكرية أو نفسية أو طبقية، تكون عليها الشخصية القصصية، وتتضح هذه العلاقة بصورة كبيرة في القصة الواقعية، و تكون عندها في غاية الأهمية لأنها تحقق التواصل مع الحياة في موضوع متناول ، على الرغم من المحاذير القائمة، و أهمها التطويل و الحشو و السأم و الرتابة و السذاجة غير المبررة وأشياء أخرى، لا يمكن نقلها كما هى عليه في الحياة إلى حوار النص الأدبى إلا عبر توظيف إجرائي يقتضى ذلك، إذ لا ينجو المؤلف من إيقاع متلقيه في الملل، حتى إذا أراد عن قصد أن يرسم ملامح شخصيته مملة أصلاً في القصة ، حيث يباح للمبدع جعل شخصيته القصصية مملة "" ولكن المشكلة هنا أن القارئ سيجدها متعبة "" لذلك يكون لزاماً على المبدع أن يجعل الحوار مسلياً وهو يسعى إلى إضفاء سمات الملل على السلوك الشخصى لبطله في القصة. و عليه ببساطة أن يعالج موضوع الملل دون أن يكون مملاً، وأن يتجنب إحداث أثر الملل في نفس المتلقى، و أن يقوده إلى الموضوع نفسه عن طريق الإيحاء المستمر لدلالة إشارته إلى الأشياء والأفعال .
أما علاقة ( انفصال) الحوار عن المحادثة اليومية بين الناس في الحياة. فهى علاقة بنائية تصب في صياغة التكوين الفنى ذاته. وعلى الرغم من (( أنه ليس من السهل البرهنة على أن هذه الكلمات بعد أن تدرج في سياق العمل الأدبى تتوقف عن كونها كلمات ، و تصبح ظاهرة فنية أخرى. حقاً أن بإمكان هذه الكلمات أن تبدو من وجهة نظر شكلية ، نفس تلك الكلمات التى نصادفها في الحديث اليومى)). بيد انه لا يخفي على الدارس المتأمل للعمل الأدبى الفرق بين الحالتين، و يكون ( بإمكانه أن يحدد بدقة أن أمامه قطعة من ظاهرة فنية و ليس تسجيلاً لحوار حقيقى أو قصة من الحياة المعاشة).
وحين يرصد الدارس تداخلاً غير مبرر ، و خلطاً بين فن القول ، و الحديث اليومى العادى في وعاء واحد ، على غير انسجام أو سبب استدعائى من باطن النص، يحيل الأمر إلى ثغرة في العمل الأدبى ذاته. ذلك أن الحوار هو حديث فنى للشخصية المبتكرة أصلاً داخل القصة. وان هذا الحديث الفنى كما يراه أودييفسكى ينتمى بكليته إلى عالم الفن و انه لا يجوز الحكم عليه المقاييس الحديث العادى في الحياة اليومية ، ففي عمل فنى حقيقى لا يكون الحوار وسيلة اتصال بل شكل أو بكلمة أدق، أحد جوانب شكل هذا العمل المشارك في تكوين العالم الفنى المحدد.
و اتصالاً بما تقدم، هل يكفي أن تعبر الشخصيات في القصة القصيرة عن أفكارها عبر حوار موجز و موح لأن الإيجاز و الإيحاء عنصران مهمان يؤديان إلى مواءمة حديث الشخصيات مع تكوين القصة من حيث فضاؤها الزمانى و المكانى و الحدثى. غير أن ذلك الحوار يظل في حاجة إلى بناء خاص يظهر سمته الفنية و أدبيته المستقلة. و كى لا تكون القصة ذات أحادى غير مبرر وينطلق من صوتين أو ثلاثة أصوات تتحاور في حيز من الأفكار التى يتقاذفونها دفعة أثر أخرى بعيداً عن المرونة أو الالتفاتة أو التوقف أو الاسترسال أو القطع أو الفكاهة أو الإخفاء أو التصريح ، تلك الميزات التى تميز أحاديث الناس في الحياة ، والتى تخضع إلى انتقائية خاصة منسجمة مع موضوع القصة وتركيب حبكتها، وشخصياتها، واتجاهها الفنى عند صياغة حوار الشخصيات فيما بينها.
فلا يتطور الحوار بهذا الشكل التسلسلى المتعاقب، لأن الأحاديث بين الشخصيات في المحادثة الحياتية لا تسير وفق انتظام مرسوم بدقة، وترتيب مرقم. فكيف الحال إذن في حوار الشخصيات في العمل القصصى، و هو أمر خاضع لانتقاء وإيجاز واختيار فكرى وابتكار فنى يقدم لمحات من الحياة في إطار الإيحاء المؤثر المرتبط بقيمة جمالية، و فكرية معينة. فالحوار في القصة ينمو مع نمو الأفكار و المواقف، إن المبدع ( يثير نقطة ثم يتركها، ثم يعود إليها ثانية ثم يتركها ثانية ناقصة، و لكن يعود إليها ثانية ، وكل مرة يحفر فيها أعمق ، و تتخذ النقاط في الحوار نسباً متباينة من الإضاءة في تقديم القصة، فثمة نقطة خافتة تتبعها نقطة مضيئة فنقطة خافتة، فنقطة أكثر إضاءة) وهكذا يتحول الحوار إلى سلسلة مشعة متوهجة من نقاط تتراوح بين إضاءة و خفوت ، فيتحقق تناغم في سياق الحوار يشبه التناغم الموسيقى. ( والموسيقى مقارنة جيدة هذا إذ يمكن لموضوعه أن تقدم و تكرر ثم تختفي مدة من الوقت لتظهر ثانية في نقطة ذروة بقوة أكثر). ذلك أن النثر كما يعتقد فلوبير يمتلك القدرة على أن يكون موسيقياً ومتناغماً ، شأن الشعر على الرغم من موضوعيته اللازمة. ويذهب فلوبير إلى أن جملة من النثر يجب أن تكون شأن سطر جديد من الشعر، مستحيلة التغيير، نغمية بكل ما في الشعر من موسيقى.
إننى إذ أجئ على مرتكزات أساسية في الجدل القائم بين الحوار الأدبى، و المحادثة الحياتية، فإنما أسعى إلى جعل ذلك تأسيساً انطلق منه في تحديد أنماط الحوار ووظائفه، لاسيما على صعيد الحوار الخارجى، لأنه النوع الشائع و المتوافر على عناصر بينة في قيام ذلك الجدل. فالحوار في القصة القصيرة يلقى عناية مضاعفة من المبدع قياساً بعنايته بحوار الرواية على أهميته ، ذلك لأن مجال الزلل و الترهل و الاضطراب لا يمكن إخفاؤه ، أو التقليل من شأنه ، لأن القصة القصيرة المتوافرة على حوار، تلجأ إليه لحاجة أساس في بنائها إلى التكوين المشهدى الذى يسعى إلى تسليط الضوء و الأهمية على جزء زمنى من حركة الشخصية، وفعلها الحدثى ، فيكون الحوار في القصة القصيرة نافذة لمرونة يحتاجها البناء السردى، و لعلها رئة أخرى تتنفس القصة من خلالها هواء جديداً يضخ في أجزائها.
أما الحوار الداخلى في القصة القصيرة، فهو ذو تنوع و غنى في أساليبه و أنماطه الوظائفية التى تحقق له غايته الفنية، و لا يمكن أن يتم تحليله إلا استرشاداً بمعطيات الذاكرة و قدرتها على الاسترجاع والكشف عن أحداث الزمن الماضى، وارتباطها بالمحفزات في الزمن الحاضر في سياق تطور الحدث والشخصيات ، فضلاً عن العلاقة المهمة بين حوار الذات مع نفسها ، والمخيلة بوصفها مولداً مستمراً لحالات وصور ورغبات ، تقيم فعل التواصل مع النفس البشرية في موقف مسبب، و قد دعا هذا الأمر إلى تبين علائـق التشابك بين الذاكرة المسترجعة للصور، والمخيلة المؤسسة لها والمبتكرة لما ليس له وجود في وعى الإنسان.
و ذلك كله ينشط في ضوء فلسفة اتجاه أدبى مهم، هو تيار الوعى الذى يقود القصة في سياق خطابها العام في ضوء المعطى الجوهرى للوعى، وإمكانات التوليد الذهنى ، و لأن القصة القصيرة ذات ارتباط وثيق بالنزعة الذاتية، وبالحديث المفرد فإن الحوار الداخلى يرتبط غالباً بكلية حدث القصة، مؤديَّا إلى جعل هذا الأسلوب عنصر انتماء و انبثاق في داخل النص على نحو شمولى، في الوقت الذى يمكن أن نجد حواراً داخليَّا جزئياً يرتبط بحدث طارئ ليس له تأثير جوهرى وعارم في سياق النص كله. فضلاً عن أن علاقة ممكنة وواضحة من الممكن تشخصيها بين الحوار الخارجى الظاهر، و الحوار الداخلى المرتبط بالعالم الداخلى للشخصية وهنا تبرز علاقة الداخل بالخارج جلية من خلال التعبير المشهدى في جزء زمنى وحركى للشخصية داخل النص.
ملاحظة
1)) الكاتب و عالمه ( ترجمة د. شكرى محمد عياد) الألف كتاب ، العدد 5.. القاهرة 1964 م، ص 284 .
2)) دايانا داوبنفاير ( الرواية و صنعة كتابة الرواية) ترجمة سامى محمد، سلسلة الموسوعة الصغيرة، 99، بغداد، 1981، ص 61
3)) مجلة المسرح القاهرة العدد ( 45) سبتمبر 1967 م ص ( 95)
4)) قمم في الأدب العالمى ، تأليف الدكتور بديع حقى، منشورات اتحاد الكتاب العرب ، دمشق 1973 .
5)) المغامرة الشعرية في القصة القصيرة الحديثة (( د. محمد عثمان الملا)) ص 15، 14 ، 13، 6، 5 - دار الكتاب العربى – بيروت
بقلم حسن غريب أحمد
يتصل المدخل المناسب إلى دراسة أسلوب الحوار في بناء القصة القصيرة بالمحادثة التى تجرى في الحياة بين الناس، و يبدو من المهم أن تتلمس ملامح حركة الحوار في آداء دوره الوظيفي العام في تحقيق فعل فنى بنائى، في ضوء علاقة تقابلية مع حالات المحادثات التى تقع في الحياة. إذ أن التعبير الذى يمارسه الناس كنشاط نطقى في العلاقات فيما بينهم ، هو تخاطب أو تحاور، وهذا يعنى أن التعبير ليس أحادى المنبت - - التعبير ثنائى المنبت بمعنى أنه من ( أ ) إلى ( ب ) وفي الوقت نفسه من ( ب) إلى ( أ ) ، وكل متكلم هو أيضاً في الوقت نفسه مخاطب ، فالكلام مخاطب و توجه، إصغاء لنطق ونطق. إنه علاقة.
و تحتاج هذه العلاقة إلى رصد دقيق من أجل تفسير ظواهرها المرتبطة بالتصرف السلوكى، و الانفعالات الوجدانية الخاصة بالإنسان.. ففي أحاديث الناس تتجلى سماتهم، و طبائعهم ، وأفكارهم و يكتشفون أحياناً عن جزء من نواياهم. والناس حين يتحدثون فيما بينهم لا يضعون مخططا محدداً يضبط كلماتهم ، وعباراتهم و مواضيعهم فقد يدخلون موضوعهم الرئيسى في طيات موضوعات عدة يفتحون صفحاتهم و هم يرومون أمراً آخر، ومن هنا ينشأ وعى خاص لدى الكاتب في اختيار أسلوب الحوار الأدبى الذى يجريه على ألسنة شخصياته. إذ يتطلب من المبدع توجيه الحوار باتجاه التكثيف و الاكتناز بغية نقل الحوار من مستوى المحادثة اليومية العادية التى تحدث بين الناس، إلى مستوى جديد يتوافر على انتقائية المفردة ، والتركيب ، والموضوع والإيحاء انسجاماً مع روح الإيحائية التى تنبع من أى عمل فنى ، مهما كان واقعياً أو أميناً في تصوير مفردات الواقع، وينبه (تشارلس مورجان) إلى هذه النقطة فيشير إلى ((إن الحوار تقطير لا تقرير)) وأنه ( وسيلة شكلية للنفاذ إلى جوهر الأشياء) غير أن ذلك لا يعفي الكاتب من خطأ قد يقع فيه وهو تجاهل المحادثة الحياتية اليومية بين الناس، ذلك أنها المادة الأساس التى تمكن الفنان من اختيار لمحاتها المضيئة في وسط العمل الفنى، فالمحادثة في الحياة العادية مرتبطة بالحوار القائم بين الشخصيات المبتكرة في العمل القصصى، و لكنه ارتباط تفاعل، لا ارتباط ارتماء أو اتكاء، فذلك يقود إلى الترهل والملل ، والقصة القصيرة هى الجنس الأدبى الأكثر حساسية إزاء هذه المسألة.
و ثمة حقيقة عامة يتأسس عليها تحليل الحوار بأنواعه و أنماطه الوظيفية في القصة القصيرة، و هى أن الحوار جزء فنى من كيان أدبى تتوافر فيه العناصر الأدبية المتكاملة التى تجعل من ذلك الكيان اللفظى أدباً و ليس شيئاً آخر. فالحوار في ضوء هذه الحقيقة تأسيس فنى فيه يحتوى خاصيتا الانفصال والاتحاد معاً، في علاقته مع المحادثات الحياتية اليومية، فعلاقة ( الاتحاد) هى علاقة اشتقاق و تناغم و استمداد من معين حياتى يعطى صورة عن حالة فكرية أو نفسية أو طبقية، تكون عليها الشخصية القصصية، وتتضح هذه العلاقة بصورة كبيرة في القصة الواقعية، و تكون عندها في غاية الأهمية لأنها تحقق التواصل مع الحياة في موضوع متناول ، على الرغم من المحاذير القائمة، و أهمها التطويل و الحشو و السأم و الرتابة و السذاجة غير المبررة وأشياء أخرى، لا يمكن نقلها كما هى عليه في الحياة إلى حوار النص الأدبى إلا عبر توظيف إجرائي يقتضى ذلك، إذ لا ينجو المؤلف من إيقاع متلقيه في الملل، حتى إذا أراد عن قصد أن يرسم ملامح شخصيته مملة أصلاً في القصة ، حيث يباح للمبدع جعل شخصيته القصصية مملة "" ولكن المشكلة هنا أن القارئ سيجدها متعبة "" لذلك يكون لزاماً على المبدع أن يجعل الحوار مسلياً وهو يسعى إلى إضفاء سمات الملل على السلوك الشخصى لبطله في القصة. و عليه ببساطة أن يعالج موضوع الملل دون أن يكون مملاً، وأن يتجنب إحداث أثر الملل في نفس المتلقى، و أن يقوده إلى الموضوع نفسه عن طريق الإيحاء المستمر لدلالة إشارته إلى الأشياء والأفعال .
أما علاقة ( انفصال) الحوار عن المحادثة اليومية بين الناس في الحياة. فهى علاقة بنائية تصب في صياغة التكوين الفنى ذاته. وعلى الرغم من (( أنه ليس من السهل البرهنة على أن هذه الكلمات بعد أن تدرج في سياق العمل الأدبى تتوقف عن كونها كلمات ، و تصبح ظاهرة فنية أخرى. حقاً أن بإمكان هذه الكلمات أن تبدو من وجهة نظر شكلية ، نفس تلك الكلمات التى نصادفها في الحديث اليومى)). بيد انه لا يخفي على الدارس المتأمل للعمل الأدبى الفرق بين الحالتين، و يكون ( بإمكانه أن يحدد بدقة أن أمامه قطعة من ظاهرة فنية و ليس تسجيلاً لحوار حقيقى أو قصة من الحياة المعاشة).
وحين يرصد الدارس تداخلاً غير مبرر ، و خلطاً بين فن القول ، و الحديث اليومى العادى في وعاء واحد ، على غير انسجام أو سبب استدعائى من باطن النص، يحيل الأمر إلى ثغرة في العمل الأدبى ذاته. ذلك أن الحوار هو حديث فنى للشخصية المبتكرة أصلاً داخل القصة. وان هذا الحديث الفنى كما يراه أودييفسكى ينتمى بكليته إلى عالم الفن و انه لا يجوز الحكم عليه المقاييس الحديث العادى في الحياة اليومية ، ففي عمل فنى حقيقى لا يكون الحوار وسيلة اتصال بل شكل أو بكلمة أدق، أحد جوانب شكل هذا العمل المشارك في تكوين العالم الفنى المحدد.
و اتصالاً بما تقدم، هل يكفي أن تعبر الشخصيات في القصة القصيرة عن أفكارها عبر حوار موجز و موح لأن الإيجاز و الإيحاء عنصران مهمان يؤديان إلى مواءمة حديث الشخصيات مع تكوين القصة من حيث فضاؤها الزمانى و المكانى و الحدثى. غير أن ذلك الحوار يظل في حاجة إلى بناء خاص يظهر سمته الفنية و أدبيته المستقلة. و كى لا تكون القصة ذات أحادى غير مبرر وينطلق من صوتين أو ثلاثة أصوات تتحاور في حيز من الأفكار التى يتقاذفونها دفعة أثر أخرى بعيداً عن المرونة أو الالتفاتة أو التوقف أو الاسترسال أو القطع أو الفكاهة أو الإخفاء أو التصريح ، تلك الميزات التى تميز أحاديث الناس في الحياة ، والتى تخضع إلى انتقائية خاصة منسجمة مع موضوع القصة وتركيب حبكتها، وشخصياتها، واتجاهها الفنى عند صياغة حوار الشخصيات فيما بينها.
فلا يتطور الحوار بهذا الشكل التسلسلى المتعاقب، لأن الأحاديث بين الشخصيات في المحادثة الحياتية لا تسير وفق انتظام مرسوم بدقة، وترتيب مرقم. فكيف الحال إذن في حوار الشخصيات في العمل القصصى، و هو أمر خاضع لانتقاء وإيجاز واختيار فكرى وابتكار فنى يقدم لمحات من الحياة في إطار الإيحاء المؤثر المرتبط بقيمة جمالية، و فكرية معينة. فالحوار في القصة ينمو مع نمو الأفكار و المواقف، إن المبدع ( يثير نقطة ثم يتركها، ثم يعود إليها ثانية ثم يتركها ثانية ناقصة، و لكن يعود إليها ثانية ، وكل مرة يحفر فيها أعمق ، و تتخذ النقاط في الحوار نسباً متباينة من الإضاءة في تقديم القصة، فثمة نقطة خافتة تتبعها نقطة مضيئة فنقطة خافتة، فنقطة أكثر إضاءة) وهكذا يتحول الحوار إلى سلسلة مشعة متوهجة من نقاط تتراوح بين إضاءة و خفوت ، فيتحقق تناغم في سياق الحوار يشبه التناغم الموسيقى. ( والموسيقى مقارنة جيدة هذا إذ يمكن لموضوعه أن تقدم و تكرر ثم تختفي مدة من الوقت لتظهر ثانية في نقطة ذروة بقوة أكثر). ذلك أن النثر كما يعتقد فلوبير يمتلك القدرة على أن يكون موسيقياً ومتناغماً ، شأن الشعر على الرغم من موضوعيته اللازمة. ويذهب فلوبير إلى أن جملة من النثر يجب أن تكون شأن سطر جديد من الشعر، مستحيلة التغيير، نغمية بكل ما في الشعر من موسيقى.
إننى إذ أجئ على مرتكزات أساسية في الجدل القائم بين الحوار الأدبى، و المحادثة الحياتية، فإنما أسعى إلى جعل ذلك تأسيساً انطلق منه في تحديد أنماط الحوار ووظائفه، لاسيما على صعيد الحوار الخارجى، لأنه النوع الشائع و المتوافر على عناصر بينة في قيام ذلك الجدل. فالحوار في القصة القصيرة يلقى عناية مضاعفة من المبدع قياساً بعنايته بحوار الرواية على أهميته ، ذلك لأن مجال الزلل و الترهل و الاضطراب لا يمكن إخفاؤه ، أو التقليل من شأنه ، لأن القصة القصيرة المتوافرة على حوار، تلجأ إليه لحاجة أساس في بنائها إلى التكوين المشهدى الذى يسعى إلى تسليط الضوء و الأهمية على جزء زمنى من حركة الشخصية، وفعلها الحدثى ، فيكون الحوار في القصة القصيرة نافذة لمرونة يحتاجها البناء السردى، و لعلها رئة أخرى تتنفس القصة من خلالها هواء جديداً يضخ في أجزائها.
أما الحوار الداخلى في القصة القصيرة، فهو ذو تنوع و غنى في أساليبه و أنماطه الوظائفية التى تحقق له غايته الفنية، و لا يمكن أن يتم تحليله إلا استرشاداً بمعطيات الذاكرة و قدرتها على الاسترجاع والكشف عن أحداث الزمن الماضى، وارتباطها بالمحفزات في الزمن الحاضر في سياق تطور الحدث والشخصيات ، فضلاً عن العلاقة المهمة بين حوار الذات مع نفسها ، والمخيلة بوصفها مولداً مستمراً لحالات وصور ورغبات ، تقيم فعل التواصل مع النفس البشرية في موقف مسبب، و قد دعا هذا الأمر إلى تبين علائـق التشابك بين الذاكرة المسترجعة للصور، والمخيلة المؤسسة لها والمبتكرة لما ليس له وجود في وعى الإنسان.
و ذلك كله ينشط في ضوء فلسفة اتجاه أدبى مهم، هو تيار الوعى الذى يقود القصة في سياق خطابها العام في ضوء المعطى الجوهرى للوعى، وإمكانات التوليد الذهنى ، و لأن القصة القصيرة ذات ارتباط وثيق بالنزعة الذاتية، وبالحديث المفرد فإن الحوار الداخلى يرتبط غالباً بكلية حدث القصة، مؤديَّا إلى جعل هذا الأسلوب عنصر انتماء و انبثاق في داخل النص على نحو شمولى، في الوقت الذى يمكن أن نجد حواراً داخليَّا جزئياً يرتبط بحدث طارئ ليس له تأثير جوهرى وعارم في سياق النص كله. فضلاً عن أن علاقة ممكنة وواضحة من الممكن تشخصيها بين الحوار الخارجى الظاهر، و الحوار الداخلى المرتبط بالعالم الداخلى للشخصية وهنا تبرز علاقة الداخل بالخارج جلية من خلال التعبير المشهدى في جزء زمنى وحركى للشخصية داخل النص.
ملاحظة
1)) الكاتب و عالمه ( ترجمة د. شكرى محمد عياد) الألف كتاب ، العدد 5.. القاهرة 1964 م، ص 284 .
2)) دايانا داوبنفاير ( الرواية و صنعة كتابة الرواية) ترجمة سامى محمد، سلسلة الموسوعة الصغيرة، 99، بغداد، 1981، ص 61
3)) مجلة المسرح القاهرة العدد ( 45) سبتمبر 1967 م ص ( 95)
4)) قمم في الأدب العالمى ، تأليف الدكتور بديع حقى، منشورات اتحاد الكتاب العرب ، دمشق 1973 .
5)) المغامرة الشعرية في القصة القصيرة الحديثة (( د. محمد عثمان الملا)) ص 15، 14 ، 13، 6، 5 - دار الكتاب العربى – بيروت