ملخص البحث:
أول ما يخطر ببال المسلم حين يدعو غير المسلم ـ مستخدماً وسيلة الحديث عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ـ هو بيان سبق القرآن الكريم في تحديد مراحل تكوُّن الجنين، بدقة ودون أي خطأ.
لكنه قد يُفاجأ بمن يزعم أن هذا الإعجاز مسبوق في الكتب المقدسة لليهود والنصارى، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم قد أخذ ذلك عنهم.
من هنا جاءت هذه الدراسة لعرض تلك الشبهة وبيان ضعفها، والله ولي التوفيق.
مقدمة:
يُقصَد بالإعجاز العلمي في القرآن الكريم: اشتماله على إشارات تدل على معارف إنسانية اكتشفت حديثاً، وحقائق كونية لا يُتصَوَّر أن يتوقعها بشر من ذاته؛ لأنها اكتشِفت في عصور متأخرة.[1]
ولما كان بيان أوجه إعجاز القرآن الكريم، والكشف عن آياته البديعة، من أهم واجبات الأمة الإسلامية[2]، كان الدفاع عنها له الحكمُ ذاته، إن لم يكن أوجب.
فمنذ بداية التحدي بالقرآن الكريم، أخذ أعداء الإسلام يوجهون سهامهم إلى المحتوى المعجز للقرآن الكريم، محاولين النيل من هيبته في نفوس المؤمنين به ـ ومن يفكر في الإيمان به ـ بشتى الطرق.
ويُعَدُّ محتوى القرآن الكريم ـ سبب عزة الأمة العربية الإسلامية ونهضتها ـ شوكةً في حلق كل من تسول له نفسه التشكيك بإلهية مصدره، وتميز أسلوبه.. فكان ـ ومازال وسيبقى ـ الكتاب السماوي الوحيد الذي يحمل دليل صدقه بين دفتيه.
عرض الشبهة:
من الأمثلة على ما سبق، مقارناتٍ تُعقَد ـ بين حين وحين ـ بين أوجه الإعجاز الثابتة في القرآن الكريم ومزاعم إعجاز سبقت في كتب السابقين. وفي هذه الدراسة تحليل ونقد لما ورد في أحد مواقع الإنترنت الناطقة بالعربية حول أشهر دلائل الإعجاز العلمي في القرآن الكريم وهو: سبقه في تحديد مراحل خلق الجنين بدقة، بحسب محاضرات شهيرة لعالم الأجنة (كيث مور) عام 1404 هـ بعنوان: " مطابقة علم الأجنة لما في القرآن والسنة "، عُقِدت في ثلاث كليات طبية بالمملكة العربية السعودية، ومما جاء في ذاك الموقع التنصيري:
" وقعت على موقع إسلامي يسمي نفسه باسم " الإعجاز العلمي في القرآن " وكان يعرض المعجزة العلمية في قوله تعالى
(ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة، فخلقنا العلقة مضغة، فخلقنا المضغة عظاماً، فكسونا العظام لحما) سورة المؤمنون،12 ـ14
ومن أجل التفسير العلمي الأكاديمي، الذي لا يقبل الشك، فقد استقدم الموقع (أحد أكبر أساتذة علم الأجنة من أمريكا) والذي تقول الرواية، أنه " ذُهل " عندما علم أن هذه الحقائق العلمية ..
والواقع أن النص القرآني[3] (الذي حمله الفقهاء أكثر مما أراد الله نفسه) لم يورد أية معلومة جديدة، بل خاطب الناس بالمعلومات المتوافرة في عصرهم، ليبين لهم قدرة الله، وليس ليمنحهم معلومات في علم الأجنة، فمعلومة أن الجنين يوجد كاملا في نطفة الرجل، معلومة معروفة منذ زمن التوراة، وقد وردت في سفر أيوب على النحو التالي: ألم تصبني كاللبن، وخثرتني كالجبن، كسوتني جلداً ولحما، فنسجتني بعظام وعصب، سفر أيوب 10/12 ".
نـقـد الشـبهة:
والرد على تلك الشبهة من وجوه:
- الوجه الأول:
بيان نظرة الكتاب المقدس لليهود والنصارى إلى أصل الجنين:
في العهد الذي جُمِعت فيه أسفار العهد القديم، كانت نظرية " الجنين القزم " أقوى النظريات الفلسفية حول أصل ونشوء الجنين، وهي تزعم أن الإنسان حينئذٍ يكون كامل الخِلقة ولكنه ينمو باضطراد كما تنمو الشجرة الصغيرة إلى أن تكبر.
نظرية الجنين القزم كانت ترى أن الإنسان يكون على شكل إنسان مصغر في نطفة الرجل (جنين قزم) ثم ينموا في داخل رحم المرأة
لكن الفلاسفة تنازَعوا في شأنها وانقسموا إلى مذهبين:
هل الإنسان يوجد كاملاً في الحيوان المنوي للرجل ؟ أم كاملاً في دم حيض المرأة يشتد عُودُه بعد أن ينعقد بسبب ماء الرجل ؟
فبحسب الأول: الإنسان يكون كامل الأعضاء قزماً في الحيوان المنوي، ولكن الجنين صغير الحجم، لا ينمو إلا في تربة خصبة (الرحم).
أما الثاني: الإنسان يكون كامل الأعضاء قزماً في دم الحيض، لكنه ينتظر المني ليقوم بمهمة عقدِ الجنين وتغليظ قوامه.
كما تفعل الإنفحة[4] بالحليب (اللبن)، فتعقده وتحوله إلى جبن.. فليس للمني دَورٌ سوى أنه ساعد كمساعدة الإنفحة للحليب (اللبن) في صنع الجبن (التخثير كالجبن).
وعند البحث في كتب التاريخ، نجد أنه لم يقل أحد من علماء الغرب الموثوق بعلمهم، إن الجنين ناتج عن التقاء الحيوان المنوي للرجل مع بويضة المرأة قبل سنة 1775م. وتم تأكيد هذه النظرية في بداية القرن العشرين عند اكتشاف الكروموسومات.[5]
بينما القرآن الكريم سبق إلى تقرير ذلك، بأن أكد أن الجنين يتكون بسبب النطفة الأمشاج (المختلطة)[6] بين نطفة الرجل، وبويضة المرأة. قال تعالى:
(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ" نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ) [الإنسان: 2].
وبيَّن أنه ينتقل من طَور إلى طَور:
(مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا"، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ) [نوح: 13، 14]،
لا جنيناً قزماً.
مصداقاً لقوله تعالى في سورة الحج:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا (5).
وفي سورة المؤمنون:
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) .
وقد كانت نظرية الجنين القزم ـ بشقيها ـ راسخة كأنها حقيقة ثابتة لا جدال فيها، لكن ذلك لم يمنع علماءنا الكرام من تقديم النص القرآني عليها، ومنهم:
- ابن حجر في مقدمة شرحه لكتاب القدر في صحيح البخاري: " وزعم كثير من أهل التشريح: أن مني الرجل لا أثر له في الولد، إلا في عقده. وأنه إنما يتكون من دم الحيض، وأحاديث الباب تُبطِلُ ذلك ".[7]
- وابن القيم: " الجنين يُخلق من ماء الرجل وماء المرأة، خلافاً لمن يزعم من الطبائعيين، أنه إنما يخلق من ماء الرجل وحده ".[8]
- والقرطبي: " بَيَّنَ الله تعالى في هذه الآية [يقصد قوله تعالى في سور الحجرات: إِنّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىَ (13) ] أنه خلق الخلق من الذكر والأنثى.. وقد ذهب قوم من الأوائل، إلى أن الجنين إنما يكون من ماء الرجل وحده، ويتربى في رحم الأم ويستمد من الدم الذي يكون فيه.. والصحيح: أن الخلق إنما يكون من ماء الرجل والمرأة؛ لهذه الآية، فإنها نصٌّ لا يحتمل التأويل ".[9]
فــائـدة:
من هنا يتبين أن علماء الإسلام يُقدِّمون الثابت القطعي من النصوص، على الظني من النظريات العلمية. كما يدل على قوة رأي علماء التشريح ـ في ذلك الزمان ـ الذين قالوا بنظرية الجنين القزم.
لكن قوة ذلك الرأي، لم تمنع علماءنا من تقديم النص القطعي على النظرية العلمية الظنية.. وفي ذلك درس بليغ لمن يتصدى للبحث في الإعجاز العلمي، فالأولوية للنص القرآني ولابد أن العلم سيكشف أن النص القرآني هو الأحكَم والأعلم.
(َلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14].
ومن المخالفات العلمية المنهجية في موقع الإنترنت التنصيري الذي أثار تلك الشبهة: عدم الرد العلمي لما ورد في المحاضرة الشهيرة لعالم الأجنة (كيث مور) ومنه:
" لم تضِف في العصور الوسطى معلومات ذات قيمة في مجال تخلق الجنين، ومع ذلك فقد سجل القرآن الكريم في القرن السابع ـ وهو الكتاب المقدس عند المسلمين ـ أن الجنين البشري يتخلق من أخلاط تركيبية [أمشاج] من الذكر والأنثى..
وأول من درس جنين الدجاجة باستخدام عدسة بسيطة هو (هارفي) Harvey عام 1651 م، ودرس كذلك أجنة حيوان (الأيل). ولصعوبة معاينة المراحل الأولى للحمل، استنتج أن الأجنة ليست إلا إفرازات رحمية.
وفي عام 1672م اكتشف (جراف) Graaf حويصلات في المبايض ما زالت تسمى باسمه Graafian Follicles ، وعاينَ حجيراتٍ في أرحام الأرانب الحوامل تماثلها، فاستنتج أن الأجنة ليست إفرازات من الرحم وإنما من المبايض.
وفي عام 1675م عاين (ملبيجي) Malpighi أجنة في بيض دجاج ظنه غير محتاج لعناصر تخصيب من الذكر، واعتقد أنه يحتوى على كائن مصغر ينمو ولا يتخلق في أطوار.
وباستخدام مجهر أكثر تطوراً اكتشف (هام) Hamm و(ليفنهوك) Leeuwenhoek الحوين المنوي للإنسان للمرة الأولى في التاريخ عام 1677م ولكنهما لم يدركا دوره الحقيقي في الإنجاب، وظنا أيضاً أنه يحتوي على الإنسان مصغراً لينمو في الرحم بلا أطوار تخليق [ الجنين القزم].
وفي عام 1759م افترض (وولف) Wolff تطور الجنين من كتل أولية التكوين ليس لها هيئة الكائن المكتمل.
عام 1775م انتهى الجدل حول فرضية الخلق المكتمل ابتداءً، واستقرت نهائياً حقيقة التخليق في أطوار. وأكدت تجارب (إسبالانزاني) Spallanzani على الكلاب على أهمية الحوينات المنوية في عملية التخليق.. وقبله سادت الفكرة بأن الحوينات المنوية كائنات غريبة متطفلة، ولذا سميت بحيوانات المني Semen Animals.
عام 1827م ـ بعد حوالي 150 سنة من اكتشاف الحوين المنوي ـ عاينَ (فون بير) von Baer البويضة في حويصلة مبيض إحدى الكلاب.
عام 1839م تأكد (شليدن) Schleiden و(شوان) Schwann مِن تكوُّن الجسم البشري من وحدات بنائية أساسية حية ونواتجها، وسميت تلك الوحدات بالخلايا، وأصبح من اليسير لاحقاً تفهُّم حقيقة التخلق في أطوار من خلية مخصبة ناتجة عن الاتحاد بين الحوين المنوي والبويضة..
عام 1878م اكتشف (فليمنج) Flemming الفتائل الوراثية Chromosomes داخل الخلايا.
عام 1883م اكتشف (بينيدن) Beneden اختزال عددها في الخلايا التناسلية.
وفي القرن العشرين تم التحقق نهائياً من احتواء الخلية البشرية الأولى Zygot على العدد الكامل من تلك الأخلاط الوراثية من الذكر ومن الأنثى وعُرِفَ عددها " .[10]
أول ما يخطر ببال المسلم حين يدعو غير المسلم ـ مستخدماً وسيلة الحديث عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ـ هو بيان سبق القرآن الكريم في تحديد مراحل تكوُّن الجنين، بدقة ودون أي خطأ.
لكنه قد يُفاجأ بمن يزعم أن هذا الإعجاز مسبوق في الكتب المقدسة لليهود والنصارى، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم قد أخذ ذلك عنهم.
من هنا جاءت هذه الدراسة لعرض تلك الشبهة وبيان ضعفها، والله ولي التوفيق.
مقدمة:
يُقصَد بالإعجاز العلمي في القرآن الكريم: اشتماله على إشارات تدل على معارف إنسانية اكتشفت حديثاً، وحقائق كونية لا يُتصَوَّر أن يتوقعها بشر من ذاته؛ لأنها اكتشِفت في عصور متأخرة.[1]
ولما كان بيان أوجه إعجاز القرآن الكريم، والكشف عن آياته البديعة، من أهم واجبات الأمة الإسلامية[2]، كان الدفاع عنها له الحكمُ ذاته، إن لم يكن أوجب.
فمنذ بداية التحدي بالقرآن الكريم، أخذ أعداء الإسلام يوجهون سهامهم إلى المحتوى المعجز للقرآن الكريم، محاولين النيل من هيبته في نفوس المؤمنين به ـ ومن يفكر في الإيمان به ـ بشتى الطرق.
ويُعَدُّ محتوى القرآن الكريم ـ سبب عزة الأمة العربية الإسلامية ونهضتها ـ شوكةً في حلق كل من تسول له نفسه التشكيك بإلهية مصدره، وتميز أسلوبه.. فكان ـ ومازال وسيبقى ـ الكتاب السماوي الوحيد الذي يحمل دليل صدقه بين دفتيه.
عرض الشبهة:
من الأمثلة على ما سبق، مقارناتٍ تُعقَد ـ بين حين وحين ـ بين أوجه الإعجاز الثابتة في القرآن الكريم ومزاعم إعجاز سبقت في كتب السابقين. وفي هذه الدراسة تحليل ونقد لما ورد في أحد مواقع الإنترنت الناطقة بالعربية حول أشهر دلائل الإعجاز العلمي في القرآن الكريم وهو: سبقه في تحديد مراحل خلق الجنين بدقة، بحسب محاضرات شهيرة لعالم الأجنة (كيث مور) عام 1404 هـ بعنوان: " مطابقة علم الأجنة لما في القرآن والسنة "، عُقِدت في ثلاث كليات طبية بالمملكة العربية السعودية، ومما جاء في ذاك الموقع التنصيري:
" وقعت على موقع إسلامي يسمي نفسه باسم " الإعجاز العلمي في القرآن " وكان يعرض المعجزة العلمية في قوله تعالى
(ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة، فخلقنا العلقة مضغة، فخلقنا المضغة عظاماً، فكسونا العظام لحما) سورة المؤمنون،12 ـ14
ومن أجل التفسير العلمي الأكاديمي، الذي لا يقبل الشك، فقد استقدم الموقع (أحد أكبر أساتذة علم الأجنة من أمريكا) والذي تقول الرواية، أنه " ذُهل " عندما علم أن هذه الحقائق العلمية ..
والواقع أن النص القرآني[3] (الذي حمله الفقهاء أكثر مما أراد الله نفسه) لم يورد أية معلومة جديدة، بل خاطب الناس بالمعلومات المتوافرة في عصرهم، ليبين لهم قدرة الله، وليس ليمنحهم معلومات في علم الأجنة، فمعلومة أن الجنين يوجد كاملا في نطفة الرجل، معلومة معروفة منذ زمن التوراة، وقد وردت في سفر أيوب على النحو التالي: ألم تصبني كاللبن، وخثرتني كالجبن، كسوتني جلداً ولحما، فنسجتني بعظام وعصب، سفر أيوب 10/12 ".
نـقـد الشـبهة:
والرد على تلك الشبهة من وجوه:
- الوجه الأول:
بيان نظرة الكتاب المقدس لليهود والنصارى إلى أصل الجنين:
في العهد الذي جُمِعت فيه أسفار العهد القديم، كانت نظرية " الجنين القزم " أقوى النظريات الفلسفية حول أصل ونشوء الجنين، وهي تزعم أن الإنسان حينئذٍ يكون كامل الخِلقة ولكنه ينمو باضطراد كما تنمو الشجرة الصغيرة إلى أن تكبر.
نظرية الجنين القزم كانت ترى أن الإنسان يكون على شكل إنسان مصغر في نطفة الرجل (جنين قزم) ثم ينموا في داخل رحم المرأة
لكن الفلاسفة تنازَعوا في شأنها وانقسموا إلى مذهبين:
هل الإنسان يوجد كاملاً في الحيوان المنوي للرجل ؟ أم كاملاً في دم حيض المرأة يشتد عُودُه بعد أن ينعقد بسبب ماء الرجل ؟
فبحسب الأول: الإنسان يكون كامل الأعضاء قزماً في الحيوان المنوي، ولكن الجنين صغير الحجم، لا ينمو إلا في تربة خصبة (الرحم).
أما الثاني: الإنسان يكون كامل الأعضاء قزماً في دم الحيض، لكنه ينتظر المني ليقوم بمهمة عقدِ الجنين وتغليظ قوامه.
كما تفعل الإنفحة[4] بالحليب (اللبن)، فتعقده وتحوله إلى جبن.. فليس للمني دَورٌ سوى أنه ساعد كمساعدة الإنفحة للحليب (اللبن) في صنع الجبن (التخثير كالجبن).
وعند البحث في كتب التاريخ، نجد أنه لم يقل أحد من علماء الغرب الموثوق بعلمهم، إن الجنين ناتج عن التقاء الحيوان المنوي للرجل مع بويضة المرأة قبل سنة 1775م. وتم تأكيد هذه النظرية في بداية القرن العشرين عند اكتشاف الكروموسومات.[5]
بينما القرآن الكريم سبق إلى تقرير ذلك، بأن أكد أن الجنين يتكون بسبب النطفة الأمشاج (المختلطة)[6] بين نطفة الرجل، وبويضة المرأة. قال تعالى:
(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ" نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ) [الإنسان: 2].
وبيَّن أنه ينتقل من طَور إلى طَور:
(مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا"، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ) [نوح: 13، 14]،
لا جنيناً قزماً.
مصداقاً لقوله تعالى في سورة الحج:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا (5).
وفي سورة المؤمنون:
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) .
وقد كانت نظرية الجنين القزم ـ بشقيها ـ راسخة كأنها حقيقة ثابتة لا جدال فيها، لكن ذلك لم يمنع علماءنا الكرام من تقديم النص القرآني عليها، ومنهم:
- ابن حجر في مقدمة شرحه لكتاب القدر في صحيح البخاري: " وزعم كثير من أهل التشريح: أن مني الرجل لا أثر له في الولد، إلا في عقده. وأنه إنما يتكون من دم الحيض، وأحاديث الباب تُبطِلُ ذلك ".[7]
- وابن القيم: " الجنين يُخلق من ماء الرجل وماء المرأة، خلافاً لمن يزعم من الطبائعيين، أنه إنما يخلق من ماء الرجل وحده ".[8]
- والقرطبي: " بَيَّنَ الله تعالى في هذه الآية [يقصد قوله تعالى في سور الحجرات: إِنّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىَ (13) ] أنه خلق الخلق من الذكر والأنثى.. وقد ذهب قوم من الأوائل، إلى أن الجنين إنما يكون من ماء الرجل وحده، ويتربى في رحم الأم ويستمد من الدم الذي يكون فيه.. والصحيح: أن الخلق إنما يكون من ماء الرجل والمرأة؛ لهذه الآية، فإنها نصٌّ لا يحتمل التأويل ".[9]
فــائـدة:
من هنا يتبين أن علماء الإسلام يُقدِّمون الثابت القطعي من النصوص، على الظني من النظريات العلمية. كما يدل على قوة رأي علماء التشريح ـ في ذلك الزمان ـ الذين قالوا بنظرية الجنين القزم.
لكن قوة ذلك الرأي، لم تمنع علماءنا من تقديم النص القطعي على النظرية العلمية الظنية.. وفي ذلك درس بليغ لمن يتصدى للبحث في الإعجاز العلمي، فالأولوية للنص القرآني ولابد أن العلم سيكشف أن النص القرآني هو الأحكَم والأعلم.
(َلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14].
ومن المخالفات العلمية المنهجية في موقع الإنترنت التنصيري الذي أثار تلك الشبهة: عدم الرد العلمي لما ورد في المحاضرة الشهيرة لعالم الأجنة (كيث مور) ومنه:
" لم تضِف في العصور الوسطى معلومات ذات قيمة في مجال تخلق الجنين، ومع ذلك فقد سجل القرآن الكريم في القرن السابع ـ وهو الكتاب المقدس عند المسلمين ـ أن الجنين البشري يتخلق من أخلاط تركيبية [أمشاج] من الذكر والأنثى..
وأول من درس جنين الدجاجة باستخدام عدسة بسيطة هو (هارفي) Harvey عام 1651 م، ودرس كذلك أجنة حيوان (الأيل). ولصعوبة معاينة المراحل الأولى للحمل، استنتج أن الأجنة ليست إلا إفرازات رحمية.
وفي عام 1672م اكتشف (جراف) Graaf حويصلات في المبايض ما زالت تسمى باسمه Graafian Follicles ، وعاينَ حجيراتٍ في أرحام الأرانب الحوامل تماثلها، فاستنتج أن الأجنة ليست إفرازات من الرحم وإنما من المبايض.
وفي عام 1675م عاين (ملبيجي) Malpighi أجنة في بيض دجاج ظنه غير محتاج لعناصر تخصيب من الذكر، واعتقد أنه يحتوى على كائن مصغر ينمو ولا يتخلق في أطوار.
وباستخدام مجهر أكثر تطوراً اكتشف (هام) Hamm و(ليفنهوك) Leeuwenhoek الحوين المنوي للإنسان للمرة الأولى في التاريخ عام 1677م ولكنهما لم يدركا دوره الحقيقي في الإنجاب، وظنا أيضاً أنه يحتوي على الإنسان مصغراً لينمو في الرحم بلا أطوار تخليق [ الجنين القزم].
وفي عام 1759م افترض (وولف) Wolff تطور الجنين من كتل أولية التكوين ليس لها هيئة الكائن المكتمل.
عام 1775م انتهى الجدل حول فرضية الخلق المكتمل ابتداءً، واستقرت نهائياً حقيقة التخليق في أطوار. وأكدت تجارب (إسبالانزاني) Spallanzani على الكلاب على أهمية الحوينات المنوية في عملية التخليق.. وقبله سادت الفكرة بأن الحوينات المنوية كائنات غريبة متطفلة، ولذا سميت بحيوانات المني Semen Animals.
عام 1827م ـ بعد حوالي 150 سنة من اكتشاف الحوين المنوي ـ عاينَ (فون بير) von Baer البويضة في حويصلة مبيض إحدى الكلاب.
عام 1839م تأكد (شليدن) Schleiden و(شوان) Schwann مِن تكوُّن الجسم البشري من وحدات بنائية أساسية حية ونواتجها، وسميت تلك الوحدات بالخلايا، وأصبح من اليسير لاحقاً تفهُّم حقيقة التخلق في أطوار من خلية مخصبة ناتجة عن الاتحاد بين الحوين المنوي والبويضة..
عام 1878م اكتشف (فليمنج) Flemming الفتائل الوراثية Chromosomes داخل الخلايا.
عام 1883م اكتشف (بينيدن) Beneden اختزال عددها في الخلايا التناسلية.
وفي القرن العشرين تم التحقق نهائياً من احتواء الخلية البشرية الأولى Zygot على العدد الكامل من تلك الأخلاط الوراثية من الذكر ومن الأنثى وعُرِفَ عددها " .[10]