أحمد أمين
نعني بالتسامح الديني أن يكون لكل فرد في الأمة حق في أن يعتقد ما يراه حقاً وأن تكون له الحرية في تأدية شعائر دينه كما يشاء، وأن يكون أهل الأديان المختلفة أمام قوانين الدولة سواء. ولننظر إلى الإسلام في ضوء هذا التعريف نر أنه من حيث مبادئه وتعالميه الأصلية هو أرقى الأديان في تحقيق هذه المبادئ. والباحث في التسامح الديني في الإسلام مضطر أن ينظر إليه من ناحيتين: ناحية المذاهب المختلفة في الإسلام نفسه، وناحية نظرة الإسلام لأهل الأديان الأخرى.
فأما الناحية الأولى فالمسلمون في عهد نزول القرآن أي عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يكونوا إلا مذهباً واحداً ولذلك لا نتوقع أن يكون في القرآن نفسه نص على التعامل بين المذاهب الإسلامية المختلفة. قد يكون هناك بينهم اختلاف في الاجتهاد أو اختلاف في تطبيق المبادئ الإسلامية ولكن لم يتعد هذا أن يكون في مسائل جزئية لا ينطبق عليها كلمة مذهب. وهناك أقوال ماثورة تدعو إلى التسامح مثل ما شاع بين المسلمين " اختلاف أمتي رحمة " وكان هذا سببا في سعة الصدر بين أهل المذاهب المختلفة من حنفي وشافعي ومالكي ألخ … ومثل ما روي عن الشافعي من قوله: (مذهبي صواب يحتمل الخطأ ومذهب غيري خطأ يحتمل الصواب) وهو قول لطيف يدل أيضاً على قدر كبير من التسامح، ومن هذا القبيل أيضاً ما شاع بين المسلمين من قولهم: (لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب غير مستَحِلّ " أي أنه لا يكفر مسلم بارتكابه ذنبا ما دام غير مستحل له، وأولى من ذلك أ نه مهما أختلف المسلمون في المذاهب والآراء والاقوال فيما هو محل للإجتهاد والنظر، فلا يصح ان يكفر احد منهم.
أما نظر الإسلام إلى الأديان الأخرى فهو نظر سَمِح، فقد سمي اليهود والنصارى أهل كتاب، وسمّاهم أهل الذمة، وهما تسميتان في منتهى اللطف والآيات التي وردت في القرآن في اهل الكتاب تدل على قدر كبير من التسامح خصوصاً في العهد المكي فيظهر أن اليهود والنصارى قابلوا الإسلام في العهد المكي بشئ من حسن الاستقبال فكان القرآن في ذلك العهد سمحاً كريماً وقد بُني في أساسه على أن القرآن يؤيد الكتب السماوية الأخرى ويتفق معها في أغراضها، وأن الشريعة الإسلامية وارثة لما قبلها ومكملة لتعاليمها (والذي أوحينا اليك من الكتاب هو الحق مصدقاً لما بين يديه أن الله بعباده لخبير بصير)، (ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شئ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون). والاسلام يعترف بنبوة الانبياء السابقين كنوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وداود وسليمان ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس. ويقرر أن أساس تعاليمهم واحدة وكلها من عند الله فلا غرو بعد ذلك كله أن يكون الإسلام سمحاً مسالماً حتى لقد نصح أتباعه بأنهم إذا دخلوا في جدال مع اليهود والنصارى بشأن الدين. جادلوهم بالحسنى (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل الينا وأنزل اليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون). بل نرى في العهد المدني، في أول الأمر مثل قوله تعالى: (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد أهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد). وقوله: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون). ولكن يظهر أن اليهود والنصارى في العهد المدني، بعد ذلك وقفوا أمام الدعوة الإسلامية يهاجمونها
ويضعون الخطط لخنقها ويتحالفون مع الوثنيين في الكيد لها والنيل منها فاضطر الإسلام أن يقابل الشدة بالشدة والكيد والكيد بالكيد، فعلت نغمة القرآن في التنديد بأهل الكتاب ووصف أساليبهم القديمة وخاصة اليهود وما فعلوه مع أنبيائهم.
فكان موقف المسلمين منهم موقف الدفاع لا الهجوم ومع ذلك فقد سمح لليهود والنصارى أن يؤدوا شعائرهم في المدينة، ونصح الرسول معاذ بن جبل حين أرسله إلى اليمن بأن لا يكره يهودياً على الإسلام، وفي كتابه إلى نصارى نجران سمح لهم أن يؤدوا شعائرهم وأن يتبعوا دينهم وأن تحفظ لهم كنائسهم وأن لا يُتدخل في شئونهم ما وفوا بعهودهم.
وسار الفقهاء من المسلمين على هذه التعاليم في فقههم من حسن معاملة أهل الكتاب، وأن يكون لهم ما لنا وعليهم ما علينا، بل لما فتحت فارس عومل أتباع زرادشت معاملة أهل الكتاب، ولئن قسا الاسالم بعض الشئ على الوثنيين دون أهل الكتاب، فلأنه يرى أن الوثنية انحطاط في الإنسانية يجب علاجها، وانتشال الإنسانية من حضيضها، وعلى هذا سار المسملون في أكثر تاريخهم على حسن معاملة أهل الكتاب، يحمونهم ما دفعوا الجزية، ويسمحون لهم بالعبادة في بِيَعِهم وكنائسهم، وهذه الجزية إنما شرعت بدل تجنيدهم لأنهم لا يأمنون جانبهم إذا جندوا، ولا يثقون بغيرتهم الحربية، فليدفعوا بدل القتال شيئاً من لمال لحمايتهم. لو قرنت معاملة المسلمين في دولهم لليهود والنصارى بمعاملة النصارى للمسلمين في دولهم، لتبين إلى أي حد كان التسامح عند المسلمين، وفقدانه عند النصارى، حتى لصحيح للمسلمين أن يفخروا بتشريع الفقهاء الاولين في معاملة أهل الذمة، وبتطبيق ذلك عليهم في مختلف الصور.
نعم حدث في التاريخ أحداث كثيرة لا تتفق وهذا التسامح الكريم، ولكن إذا دققنا النظر فيها وجدناها ترجع إلى أسباب أكثرها غير ديني، سواء في ذلك الاضطهاد الذي حدث بين المذاهب الإسلامية بعضها وبعض، أو بين المسلمين وغيرهم من اليهود والنصارى. من أهم هذه الأسباب: السياسة، فالنزاع بين الحكومة الإسلامية والخوارج في العهد الاموي وصدر العباسيين سببه أن الخوارج بتعاليمهم يريدون أن يتولى الحكم أصلح الناس ولو كان عبداً حبشياً، ولا يعترفون ببيت أموي ولا بيت عباسي، ويريدون أن يصلوا إلى مبدئهم بالقوة، فاضطرت الحكومة الأموية والحكومة العباسية أن تحفظ كيانها، وتحمي بيتها في الخلافة بمحاربة الخوارج والقضاء عليهم، وهذا سياسة لا دين.
يتبع
نعني بالتسامح الديني أن يكون لكل فرد في الأمة حق في أن يعتقد ما يراه حقاً وأن تكون له الحرية في تأدية شعائر دينه كما يشاء، وأن يكون أهل الأديان المختلفة أمام قوانين الدولة سواء. ولننظر إلى الإسلام في ضوء هذا التعريف نر أنه من حيث مبادئه وتعالميه الأصلية هو أرقى الأديان في تحقيق هذه المبادئ. والباحث في التسامح الديني في الإسلام مضطر أن ينظر إليه من ناحيتين: ناحية المذاهب المختلفة في الإسلام نفسه، وناحية نظرة الإسلام لأهل الأديان الأخرى.
فأما الناحية الأولى فالمسلمون في عهد نزول القرآن أي عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يكونوا إلا مذهباً واحداً ولذلك لا نتوقع أن يكون في القرآن نفسه نص على التعامل بين المذاهب الإسلامية المختلفة. قد يكون هناك بينهم اختلاف في الاجتهاد أو اختلاف في تطبيق المبادئ الإسلامية ولكن لم يتعد هذا أن يكون في مسائل جزئية لا ينطبق عليها كلمة مذهب. وهناك أقوال ماثورة تدعو إلى التسامح مثل ما شاع بين المسلمين " اختلاف أمتي رحمة " وكان هذا سببا في سعة الصدر بين أهل المذاهب المختلفة من حنفي وشافعي ومالكي ألخ … ومثل ما روي عن الشافعي من قوله: (مذهبي صواب يحتمل الخطأ ومذهب غيري خطأ يحتمل الصواب) وهو قول لطيف يدل أيضاً على قدر كبير من التسامح، ومن هذا القبيل أيضاً ما شاع بين المسلمين من قولهم: (لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب غير مستَحِلّ " أي أنه لا يكفر مسلم بارتكابه ذنبا ما دام غير مستحل له، وأولى من ذلك أ نه مهما أختلف المسلمون في المذاهب والآراء والاقوال فيما هو محل للإجتهاد والنظر، فلا يصح ان يكفر احد منهم.
أما نظر الإسلام إلى الأديان الأخرى فهو نظر سَمِح، فقد سمي اليهود والنصارى أهل كتاب، وسمّاهم أهل الذمة، وهما تسميتان في منتهى اللطف والآيات التي وردت في القرآن في اهل الكتاب تدل على قدر كبير من التسامح خصوصاً في العهد المكي فيظهر أن اليهود والنصارى قابلوا الإسلام في العهد المكي بشئ من حسن الاستقبال فكان القرآن في ذلك العهد سمحاً كريماً وقد بُني في أساسه على أن القرآن يؤيد الكتب السماوية الأخرى ويتفق معها في أغراضها، وأن الشريعة الإسلامية وارثة لما قبلها ومكملة لتعاليمها (والذي أوحينا اليك من الكتاب هو الحق مصدقاً لما بين يديه أن الله بعباده لخبير بصير)، (ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شئ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون). والاسلام يعترف بنبوة الانبياء السابقين كنوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وداود وسليمان ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس. ويقرر أن أساس تعاليمهم واحدة وكلها من عند الله فلا غرو بعد ذلك كله أن يكون الإسلام سمحاً مسالماً حتى لقد نصح أتباعه بأنهم إذا دخلوا في جدال مع اليهود والنصارى بشأن الدين. جادلوهم بالحسنى (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل الينا وأنزل اليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون). بل نرى في العهد المدني، في أول الأمر مثل قوله تعالى: (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد أهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد). وقوله: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون). ولكن يظهر أن اليهود والنصارى في العهد المدني، بعد ذلك وقفوا أمام الدعوة الإسلامية يهاجمونها
ويضعون الخطط لخنقها ويتحالفون مع الوثنيين في الكيد لها والنيل منها فاضطر الإسلام أن يقابل الشدة بالشدة والكيد والكيد بالكيد، فعلت نغمة القرآن في التنديد بأهل الكتاب ووصف أساليبهم القديمة وخاصة اليهود وما فعلوه مع أنبيائهم.
فكان موقف المسلمين منهم موقف الدفاع لا الهجوم ومع ذلك فقد سمح لليهود والنصارى أن يؤدوا شعائرهم في المدينة، ونصح الرسول معاذ بن جبل حين أرسله إلى اليمن بأن لا يكره يهودياً على الإسلام، وفي كتابه إلى نصارى نجران سمح لهم أن يؤدوا شعائرهم وأن يتبعوا دينهم وأن تحفظ لهم كنائسهم وأن لا يُتدخل في شئونهم ما وفوا بعهودهم.
وسار الفقهاء من المسلمين على هذه التعاليم في فقههم من حسن معاملة أهل الكتاب، وأن يكون لهم ما لنا وعليهم ما علينا، بل لما فتحت فارس عومل أتباع زرادشت معاملة أهل الكتاب، ولئن قسا الاسالم بعض الشئ على الوثنيين دون أهل الكتاب، فلأنه يرى أن الوثنية انحطاط في الإنسانية يجب علاجها، وانتشال الإنسانية من حضيضها، وعلى هذا سار المسملون في أكثر تاريخهم على حسن معاملة أهل الكتاب، يحمونهم ما دفعوا الجزية، ويسمحون لهم بالعبادة في بِيَعِهم وكنائسهم، وهذه الجزية إنما شرعت بدل تجنيدهم لأنهم لا يأمنون جانبهم إذا جندوا، ولا يثقون بغيرتهم الحربية، فليدفعوا بدل القتال شيئاً من لمال لحمايتهم. لو قرنت معاملة المسلمين في دولهم لليهود والنصارى بمعاملة النصارى للمسلمين في دولهم، لتبين إلى أي حد كان التسامح عند المسلمين، وفقدانه عند النصارى، حتى لصحيح للمسلمين أن يفخروا بتشريع الفقهاء الاولين في معاملة أهل الذمة، وبتطبيق ذلك عليهم في مختلف الصور.
نعم حدث في التاريخ أحداث كثيرة لا تتفق وهذا التسامح الكريم، ولكن إذا دققنا النظر فيها وجدناها ترجع إلى أسباب أكثرها غير ديني، سواء في ذلك الاضطهاد الذي حدث بين المذاهب الإسلامية بعضها وبعض، أو بين المسلمين وغيرهم من اليهود والنصارى. من أهم هذه الأسباب: السياسة، فالنزاع بين الحكومة الإسلامية والخوارج في العهد الاموي وصدر العباسيين سببه أن الخوارج بتعاليمهم يريدون أن يتولى الحكم أصلح الناس ولو كان عبداً حبشياً، ولا يعترفون ببيت أموي ولا بيت عباسي، ويريدون أن يصلوا إلى مبدئهم بالقوة، فاضطرت الحكومة الأموية والحكومة العباسية أن تحفظ كيانها، وتحمي بيتها في الخلافة بمحاربة الخوارج والقضاء عليهم، وهذا سياسة لا دين.
يتبع