من طرف الشـــعر والإيقاع
بقلم : د. علاء عبد الهادي
الإيقاع مكون أساس من مكونات خبرتنا الإنسانية بالحياة, وهو عنصر لا غني عنه في أي نشاط إنساني, وفي هذا ما يشير الي اتساع مفهومه ليشمل نشاطات الحياة كافة. نشعر بالإيقاع في تنفسنا,وفي خطونا اليومي, وفي أثناء تناولنا لطعامنا, وتعاملنا اليومي مع الآلات بأنواعها, وفي الفن التشكيلي,وفنون العمارة, والرواية, والمسرح, والسينما, وفي الموسيقي, والشعر, وأظنني لا أعدو الحق إذا قلت إنه من اليسير أن نتبين الإيقاع في كل ما حولنا من حيوات, وذلك من خلال سمات بأعينها مثل التكرار, والتعاقب, والترابط, وغيرها.
وبالرغم من اتساع مفهومه, فإنه علي مستوي التعبير اللغوي المرتبط بالإنتاج الشعري العربي بخاصة يضيق كثيرا, بل إنه يعجز عن استثمار ما تحمله لغة غنية كالعربية من إمكانات, ذلك لتوقف الشعر عند تخوم مفهوم ارتبط طويلا بإرث تاريخي محدود للقصيدة العربية فيما يظن أنه أرفع تجلياتها التاريخية, وأقتبس هنا ما يخالف هذه العقيدة مما قاله القاضي الجرجاني(948 ـ1001) علي سبيل المثال: ودونك هذه الدواوين, الجاهلية والإسلامية, فانظر هل تجد فيها قصيدة, تسلم من بيت أو أكثر لا يمكن لعائب القدح فيه, إما في لفظه ونظمه, أو ترتيبه وتقسيمه, أو معناه وإعرابه,
ولنتأمل معا ما قاله ميخائيل نعيمة في كتابه الغربال المنشور عام1923: لحق الوزن بالشعر, ونما معه نموا طبيعيا, فكان يتكيف بالشعر, ولا يتكيف الشعر به(......) ومازال الشعر سابقا والوزن لاحقا حتي قيض الله لأبي عبد الرحمن أن جمع كل ما توصل إليه من الأوزان فبوبهاو حددها,(....) منذ ذلك الحين ياأخي أخذ الوزن يتغلب رويدا رويدا علي الشعر الي أن أصبح الشعر لاحقا, والوزن سابقا, وأصبح كل من قدر أن يتغلب علي عروض الخليل(.......) أهلا لأن يدعي شاعرا وهما رأيان من زمانين مختلفين, لكنهما يشيران الي مئات الآراء المماثلة, التي تحمل برغم قدمهما ـ من النضوج, والبصيرة, ما لا تحمله آراء نقاد, وشعراء معاصرين...
علي المستوي الشكلي للغة, يمكننا القول إن النصوص الشعرية في العالم بعامة قد اتسمت بواحد أو أكثر من ثلاثة أنواع تاريخية ثابتة من الإيقاعات, الأول هو الإيقاع القائم علي الكم. وهو النوع الذي قام عليه أساس عروض الشعر العربي القديم, وفيه يحدد طول البيت بعدد تفعيلاته, دون استناده في ذلك الي النبر, أو ما يقصد به التشديد الصوتي علي المقطع. أما الإيقاع الثاني فهو الإيقاع القائم علي النبر, وهو إيقاع كيفي, ويمثل جزءا كبيرا من عروض الشعر العالمي, ويحدد طول البيت فيه عدد النقرات, أومواقع النبر القوي. والنوع الثالث هو الإيقاع المقطعي, ويحدد طول البيت فيه عدد مقاطعه فحسب, بصرف النظر عن طولها,
فاللغة اليابانية علي سبيل المثال لا تستخدم القافية, ولا تواتر الحروف الصحيحة لتحدد بيتا من الشعر, ليس لغيابهما, ولكن لشيوعهما الي درجة تفقدهما قيمتهما الشعرية. أما مفهوم الشعر في المعجم العربي فقد ظل قرونا طويلة محاصرا بتعريفه القائم علي تراثه الإيقاعي القديم, ويعرفه المعجم بصفته منظوم القول, غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية, وهو تعريف استقر بعد تأسيس علم العروض, الذي نعده اجتهادا مهما قام بناء علي معاينة واقع شعري تاريخي محدود آنذاك بالضرورة, ومن المعروف لعامة المثقفين أن هناك من الأوزان الشعرية التي وضعها الخليل( ت786) ما يوجد شك قوي في وجوده, ومنها ما أهمله الخليل لأنه لم يتفق مع بنائه, ومنها ما استدرك عليه, ومنها ما استحدث,
وأشير هنا, علي سبيل المثال لا الحصر الي أبي الريحان البيروني(973 ـ1048) في كلامه عن الشعر الهندي وعروضه, وشبهة تأثر الخليل به, في كتابه تحقيق ما للهند من مقولة: هم يصورون في تعديد الحروف شبه ما صوره الخليل(...) وإنما طولت في الحكاية(...) ليعرف أن الخليل كان موفقا في الاقتضابات! وإن كان ممكنا ان يكون قد سمع أن للهند موازين في الأشعار! كما ظن به بعض الناس! وعلي الرغم من منطقية البناء النظري للعروض العربي, ودقته بعامة, فإنه بناء تاريخي, لا يمكن أن يمثل ـ هو أو غيره من أبنية كلية مماثلة ـ إلا جزءا ضئيلا من الممكنات الإيقاعية للغة ثرية كالعربية, التي تضم ممكنات لا نهائية كامنة, لم يكن في مكنة الخليل تقعيدها, لأن النصوص الشعرية الدالة عليها لم تكن متوافرة آنذاك. كان الخليل مدركا لنسبية تأسيسه, فسمح بخروج الشعراء عما وضعه من قواعد, كما يعلم أهل التخصص,
فعلي الرغم من أنه قد وضع السماع عند العرب أصلا, فإنه أجاز القول علي ما لم تقل عليه, وهذا ما انتقده عليه ابن عبد ربه في أرجوزته بصفته قد نقض أصل ما فعل, وهذا ما رفضه أيضا شعراء ونقاد معاصرون! آمنوا بالمبدء التراثي اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم. لقد حكمت النتاج الشعري العربي طويلا خطابات تاريخية, ومفاهيم تقليدية, حاول التيار التقليدي الذي احتل المجال الأدبي استدامة شروط فعاليتها, وهي مفاهيم اختزلت الشعر الي بعض صفاته التاريخية, والنسبية, وهذا ما أدي الي تكريس رؤية معيارية شكلية خاطئة, رؤية لا تاريخية, مازال الشعر يعاني منها حتي الآن علي مستويي الإبداع, والدرس النقدي معا, بل إن النص الشعري ـ كما أري الآن ـ بات يتميز بتأثيره الكلي, بشعرية الخطاب كله في تجاوراته, لا بشعرية كل جزء فيه,
وهذه إضاءة فارقة علي مستوي الوعي الحالي بالمفهوم, فالحدود بين ما يسمي الجملة الشعرية والجملة النثرية غائمة, وستظل لعبة في يد الشعراء العظماء القادرين علي تحويل ما ينسب تقليدا الي النثر اللاشعري الي الشعر. وعلي الرغم من اتفاق معظم الشعراء علي أهمية موسيقي الشعر, فإن الاختلاف يقع دائما بينهم حول المقصود بكلمة موسيقا, ذلك لأن هناك من الشعراء التقليديين من حصر موسيقا الشعر بعام, في بنية إيقاعية تاريخية, ضيقة ومحدودة. ربما كنت واحدا ممن يؤمنون بأن الإيقاعات التراثية قد عبرت ـ في وقتها ـ أصدق تعبير عن روح زمانها, أما ما يجاهد الشعراء والنقاد السلفيون من أجله الآن, فهو استدامة هذه الروح الإيقاعية ـ دون الالتفات الي بيئتها التاريخية, وشروط إنتاجها ـ ذلك بعد أن حاولوا تأبيدها بصفتها جوهرا في بني الشعر بعامة, برغم كونها سمة من السمات التي اتصف بها شعرنا العربي في مرحلة تاريخية ولت, وفي بيئات انقضت آثارها.
هذا إذا اتفقنا علي أن للإيقاع الفني علاقة وطيدة بالزمان وبالمكان اللذين ظهر فيهما. وهي علاقة تفسر أحد أسباب انفصال الإيقاعات الشعرية المعاصرة الآن, عن المفاهيم القياسية الثابتة لموسيقي الشعر القديمة بعامة, دون وجود ما يمنع من الاستفادة منها, فالأمر كله معلق علي قدرة الشاعر النثري, وقوة دفقه الشعري, مثله في ذلك مثل الشاعر العمودي, أو التفعيلي, ذلك لأن إتقان العروض لا يعد ضمانة نقدية, أو جمالية في حد ذاتها ـ لتحقق النص الشعري. فما أقبح قصائد النثر التي لا تنتمي الي الشعر وأكثرها, وأقبح منها القصائد التي لا تنتمي الي الشعر في شيء غير الوزن والقافية!
الأهرام 2 / 8 / 2009
بقلم : د. علاء عبد الهادي
الإيقاع مكون أساس من مكونات خبرتنا الإنسانية بالحياة, وهو عنصر لا غني عنه في أي نشاط إنساني, وفي هذا ما يشير الي اتساع مفهومه ليشمل نشاطات الحياة كافة. نشعر بالإيقاع في تنفسنا,وفي خطونا اليومي, وفي أثناء تناولنا لطعامنا, وتعاملنا اليومي مع الآلات بأنواعها, وفي الفن التشكيلي,وفنون العمارة, والرواية, والمسرح, والسينما, وفي الموسيقي, والشعر, وأظنني لا أعدو الحق إذا قلت إنه من اليسير أن نتبين الإيقاع في كل ما حولنا من حيوات, وذلك من خلال سمات بأعينها مثل التكرار, والتعاقب, والترابط, وغيرها.
وبالرغم من اتساع مفهومه, فإنه علي مستوي التعبير اللغوي المرتبط بالإنتاج الشعري العربي بخاصة يضيق كثيرا, بل إنه يعجز عن استثمار ما تحمله لغة غنية كالعربية من إمكانات, ذلك لتوقف الشعر عند تخوم مفهوم ارتبط طويلا بإرث تاريخي محدود للقصيدة العربية فيما يظن أنه أرفع تجلياتها التاريخية, وأقتبس هنا ما يخالف هذه العقيدة مما قاله القاضي الجرجاني(948 ـ1001) علي سبيل المثال: ودونك هذه الدواوين, الجاهلية والإسلامية, فانظر هل تجد فيها قصيدة, تسلم من بيت أو أكثر لا يمكن لعائب القدح فيه, إما في لفظه ونظمه, أو ترتيبه وتقسيمه, أو معناه وإعرابه,
ولنتأمل معا ما قاله ميخائيل نعيمة في كتابه الغربال المنشور عام1923: لحق الوزن بالشعر, ونما معه نموا طبيعيا, فكان يتكيف بالشعر, ولا يتكيف الشعر به(......) ومازال الشعر سابقا والوزن لاحقا حتي قيض الله لأبي عبد الرحمن أن جمع كل ما توصل إليه من الأوزان فبوبهاو حددها,(....) منذ ذلك الحين ياأخي أخذ الوزن يتغلب رويدا رويدا علي الشعر الي أن أصبح الشعر لاحقا, والوزن سابقا, وأصبح كل من قدر أن يتغلب علي عروض الخليل(.......) أهلا لأن يدعي شاعرا وهما رأيان من زمانين مختلفين, لكنهما يشيران الي مئات الآراء المماثلة, التي تحمل برغم قدمهما ـ من النضوج, والبصيرة, ما لا تحمله آراء نقاد, وشعراء معاصرين...
علي المستوي الشكلي للغة, يمكننا القول إن النصوص الشعرية في العالم بعامة قد اتسمت بواحد أو أكثر من ثلاثة أنواع تاريخية ثابتة من الإيقاعات, الأول هو الإيقاع القائم علي الكم. وهو النوع الذي قام عليه أساس عروض الشعر العربي القديم, وفيه يحدد طول البيت بعدد تفعيلاته, دون استناده في ذلك الي النبر, أو ما يقصد به التشديد الصوتي علي المقطع. أما الإيقاع الثاني فهو الإيقاع القائم علي النبر, وهو إيقاع كيفي, ويمثل جزءا كبيرا من عروض الشعر العالمي, ويحدد طول البيت فيه عدد النقرات, أومواقع النبر القوي. والنوع الثالث هو الإيقاع المقطعي, ويحدد طول البيت فيه عدد مقاطعه فحسب, بصرف النظر عن طولها,
فاللغة اليابانية علي سبيل المثال لا تستخدم القافية, ولا تواتر الحروف الصحيحة لتحدد بيتا من الشعر, ليس لغيابهما, ولكن لشيوعهما الي درجة تفقدهما قيمتهما الشعرية. أما مفهوم الشعر في المعجم العربي فقد ظل قرونا طويلة محاصرا بتعريفه القائم علي تراثه الإيقاعي القديم, ويعرفه المعجم بصفته منظوم القول, غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية, وهو تعريف استقر بعد تأسيس علم العروض, الذي نعده اجتهادا مهما قام بناء علي معاينة واقع شعري تاريخي محدود آنذاك بالضرورة, ومن المعروف لعامة المثقفين أن هناك من الأوزان الشعرية التي وضعها الخليل( ت786) ما يوجد شك قوي في وجوده, ومنها ما أهمله الخليل لأنه لم يتفق مع بنائه, ومنها ما استدرك عليه, ومنها ما استحدث,
وأشير هنا, علي سبيل المثال لا الحصر الي أبي الريحان البيروني(973 ـ1048) في كلامه عن الشعر الهندي وعروضه, وشبهة تأثر الخليل به, في كتابه تحقيق ما للهند من مقولة: هم يصورون في تعديد الحروف شبه ما صوره الخليل(...) وإنما طولت في الحكاية(...) ليعرف أن الخليل كان موفقا في الاقتضابات! وإن كان ممكنا ان يكون قد سمع أن للهند موازين في الأشعار! كما ظن به بعض الناس! وعلي الرغم من منطقية البناء النظري للعروض العربي, ودقته بعامة, فإنه بناء تاريخي, لا يمكن أن يمثل ـ هو أو غيره من أبنية كلية مماثلة ـ إلا جزءا ضئيلا من الممكنات الإيقاعية للغة ثرية كالعربية, التي تضم ممكنات لا نهائية كامنة, لم يكن في مكنة الخليل تقعيدها, لأن النصوص الشعرية الدالة عليها لم تكن متوافرة آنذاك. كان الخليل مدركا لنسبية تأسيسه, فسمح بخروج الشعراء عما وضعه من قواعد, كما يعلم أهل التخصص,
فعلي الرغم من أنه قد وضع السماع عند العرب أصلا, فإنه أجاز القول علي ما لم تقل عليه, وهذا ما انتقده عليه ابن عبد ربه في أرجوزته بصفته قد نقض أصل ما فعل, وهذا ما رفضه أيضا شعراء ونقاد معاصرون! آمنوا بالمبدء التراثي اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم. لقد حكمت النتاج الشعري العربي طويلا خطابات تاريخية, ومفاهيم تقليدية, حاول التيار التقليدي الذي احتل المجال الأدبي استدامة شروط فعاليتها, وهي مفاهيم اختزلت الشعر الي بعض صفاته التاريخية, والنسبية, وهذا ما أدي الي تكريس رؤية معيارية شكلية خاطئة, رؤية لا تاريخية, مازال الشعر يعاني منها حتي الآن علي مستويي الإبداع, والدرس النقدي معا, بل إن النص الشعري ـ كما أري الآن ـ بات يتميز بتأثيره الكلي, بشعرية الخطاب كله في تجاوراته, لا بشعرية كل جزء فيه,
وهذه إضاءة فارقة علي مستوي الوعي الحالي بالمفهوم, فالحدود بين ما يسمي الجملة الشعرية والجملة النثرية غائمة, وستظل لعبة في يد الشعراء العظماء القادرين علي تحويل ما ينسب تقليدا الي النثر اللاشعري الي الشعر. وعلي الرغم من اتفاق معظم الشعراء علي أهمية موسيقي الشعر, فإن الاختلاف يقع دائما بينهم حول المقصود بكلمة موسيقا, ذلك لأن هناك من الشعراء التقليديين من حصر موسيقا الشعر بعام, في بنية إيقاعية تاريخية, ضيقة ومحدودة. ربما كنت واحدا ممن يؤمنون بأن الإيقاعات التراثية قد عبرت ـ في وقتها ـ أصدق تعبير عن روح زمانها, أما ما يجاهد الشعراء والنقاد السلفيون من أجله الآن, فهو استدامة هذه الروح الإيقاعية ـ دون الالتفات الي بيئتها التاريخية, وشروط إنتاجها ـ ذلك بعد أن حاولوا تأبيدها بصفتها جوهرا في بني الشعر بعامة, برغم كونها سمة من السمات التي اتصف بها شعرنا العربي في مرحلة تاريخية ولت, وفي بيئات انقضت آثارها.
هذا إذا اتفقنا علي أن للإيقاع الفني علاقة وطيدة بالزمان وبالمكان اللذين ظهر فيهما. وهي علاقة تفسر أحد أسباب انفصال الإيقاعات الشعرية المعاصرة الآن, عن المفاهيم القياسية الثابتة لموسيقي الشعر القديمة بعامة, دون وجود ما يمنع من الاستفادة منها, فالأمر كله معلق علي قدرة الشاعر النثري, وقوة دفقه الشعري, مثله في ذلك مثل الشاعر العمودي, أو التفعيلي, ذلك لأن إتقان العروض لا يعد ضمانة نقدية, أو جمالية في حد ذاتها ـ لتحقق النص الشعري. فما أقبح قصائد النثر التي لا تنتمي الي الشعر وأكثرها, وأقبح منها القصائد التي لا تنتمي الي الشعر في شيء غير الوزن والقافية!
الأهرام 2 / 8 / 2009
